وكالات:
تفاجئ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 23 يونيو الماضي، بأخبار حول محاولة انقلاب قوات فاغنر عليه برئاسة يفغيني بريغوجين، حيث تركت القوات مواقعها في أوكرانيا ودخلت الأراضي الروسية، وقامت باحتلال مدينتي روستوف وفارنا، وتتجه نحو العاصمة موسكو مُستهدفة اقتحام الكرملين للقبض على بوتين.
ولم يكن أمام بوتين غير اللجوء إلى أحد الحلّين؛ إما مواجهة الانقلاب بالسلاح من خلال مواجهة قوات الجيش الروسي لقوات فاغنر، ولكنه الحل الذي قد يتسبب في الحرب الأهلية داخل شوارع روسيا، خاصة وأن قوات فاغنر مُتخصصة بالفعل في حروب الشوارع، ما قد يتسبب في وقوع الكثير من الضحايا إضافة إلى احتمالية التأثير السلبي على رؤية الشعب نحو بوتين وكذلك الحرب في أوكرانيا.
أما الحل الآخر فتمثل في امتصاص غضب قوات فاغنر حتى يستطيع إخراجهم خارج الحدود الروسية، وبعدها يأخذ رد الفعل المُرضي له على محاولة الإنقلاب.
وبالفعل لجأ بوتين إلى رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، طالبًا منه التدخل لحل الأزمة بشكلٍ سلمي، وبالفعل تواصل لوكاشينكو بقائد قوات فاغنر، واتفق معه وديًا أن يقوم باستقباله مع قواته في بيلاروسيا كطرف محايد حتى يتم حل الأزمة.
وبالفعل وافق قائد فاغنر، وانتهت محاولة الانقلاب التي بدأت في 23 في اليوم التالي 24 لتكون مدتها يوم واحد فقط، لكن كان هذا اليوم كفيلا بكتابة نهاية قائد قوات فاغنر إلى الأبد.
حيث مات قائد قوات فاغنر محروقًا داخل طائرة خاصة وقعت به من ارتفاع 28 ألف قدم، مع 6 أفراد من طاقمه مع الطيار ومساعده والمُضيفة.
وللأسف اخطأ يفغيني بريغوجين في حق بوتين مرتين؛ الأولى عندما تحدّاه في محاولة الانقلاب، والثاني عندما تعشّم في الحصول على مسامحته، فبوتين لم يُسامح أبدًا من اخطأ في حقه، ولنا في 13 فردًا قبل قائد فاغنر مثال، حيث كانت نهايتهم كنهايته.
أولهم: بوريس بيريزوفيسكي؛ ذو الأصول اليهودية، والذي يُعتبر سببًا رئيسيًا في وصول بوتين إلى الحكم، كما أنه أحد الداعمين لبوتين للترشح للرئاسة عام 2000، وكان دعمه لبوتين بسبب طمعه في الاستمرار في القرب من دوائر السلطة، خاصة وأنه كان قريبًا جدًا من الرئيس الروسي بوريس يلتسن، حيث استفاد بهذا التقرب في صفقات تجارية تجاوزت قيمتها المليارات.
انتقادات صارخة لبوتين
وبعد نجاح بوتين في الرئاسة تفاجىء بيريزوفيسكي بأنه لن يستطع الاستفادة بقربه من بوتين، كما كان الوضع سابقًا مع يلتسن، فبدأ في انتقاد بوتين، وازدادت انتقاداته مع نشوب حرب الشيشان، فقرر بوتين أن يُعاقبه على رد فعله، ليتفاجئ بتوجيه اتهامات له بالفساد المالي والتربح غير المشروع.
وفورًا لجأ بيريزوفيسكي للهروب إلى بريطانيا عبر “اللجوء السياسي”، إلا أن المخابرات البريطانية استاءت من تصريحاته اليومية ضد بوتين، نظرًا لكونها انتقادات غير عادية، فعلى سبيل المثال، في عام 2006 صرّح لإذاعة موسكو بأنه يعمل على الإطاحة بحكم الرئيس بوتين، مشيرًا إلى أن بوتين صاحب تدبير اغتيال الضابط الروسي المنشق ألكسندر ليتفنينكو، إضافة إلى إعلان مسؤوليته عن تمويل مسؤولين بالكرملين لتنفيذ الانقلاب على بوتين.
وعند هذه النقطة هددته المخابرات البريطانية بإلغاء لجوئه السياسي وترحيله إلى روسيا، في حين اعتبر بوتين تصرفات بيريزوفيسكي خيانة تستحق القتل، وبالفعل في 23 مارس 2013 كشفت المخابرات البريطانية عن مقتل بيروزوفيسكي مشنوقًا داخل حمام منزله، وبالرغم من وضوح الفاعل، إلا أن الطب الشرعي في بريطانيا أعلن عدم قدرته على تحديد سبب الوفاة، وأُغلقت القضية.
ولم تقتصر انتقامات بوتين على رجال حكومة سابقين ولكنها امتدت أيضًا إلى أعضاء الكرملين…
بوريس نيمتسوف؛ كان نائب رئيس الوزراء قبل تولي بوتين الحكم عام 2000، وكان أحد أهم المرشحين لتولي الرئاسة بدلًا من بوتين، لكن فاز بوتين بالحكم.
وبالرغم من تحطّم آمال هذا الرجل بالفوز بالرئاسة إلا أنه قام بدعم بوتين والمُباركة له بعد الفوز بالرئاسة، ولكن عند إهمال بوتين لحقوق الإنسان والحريات المدنية، كان نيمتسوف أول من تظاهر بالشوارع ضد بوتين وسياسة حكمه، لتنطلق فيما بعد المُظاهرات، كما انتقد نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2011 واتهمها بالمُزورة، وبدأ في كتابة تقارير عن فساد المسؤولين وأولهم بوتين.
وفي فبراير 2015، وبعد احتلال بوتين لجزيرة القرم، أو استعادتها أيّا كان المُسمّى، خرج نيمتسوف للتظاهر أمام الكرملين داعيًا الجميع لمُشاركته في التظاهرات أمام الكرملين ضد التدخل في أوكرانيا، ما أسفر عن اغتياله في الحال برصاصة من شخص مجهول، بل وازداد الغضب في الشوارع نظرًا لكونه نائب رئيس الوزراء الذي اُغتيل على مرأى الناس أمام الكرملين، وفعلًا أيّد بوتين انتقادات الناس ووعد بالتحقيق شخصيًا في هذا الحادث، الذي لم يتم القبض على فاعله حتى هذه اللحظة، لتؤيد القضية في النهاية ضد مجهول.
الاغتيال الثالث؛ عميل المخابرات السوفيتية المنشق ألكسندر لتفينينكو، والذي كان قائدًا لجهاز الأمن الفيدرالي الذي حل محله المخابرات الداخلية، والتي كانت أحد وكالات المخابرات الروسية، والتي كان بوتين رئيسها، حيث تولى بعدها رئاسة الوزراء ثم رئاسة روسيا.
تفجيرات الشقق الروسية
وفجأة ودون سابق إنذار انشق عميل المخابرات عن الجهاز، وأرجع سبب انشقاقه إلى رؤيته العديد من المجازر التي تسببت فيها المخابرات الروسية وقت كان بوتين رئيسًا للجهاز، بينها تفجيرات الشقق الروسية التي تم تنفيذها عام 1999، والتي تسببت في مقتل 300 شخص، وإصابة 650 آخرين، هذه التفجيرات كانت 4 تفجيرات في 4عمارات في ثلاث مدن روسية، والتي قبل وقتها أن المسؤول عن هذه التفجيرات جماعة إسلامية مسلحة هي جماعة “القوقاز”، فما كان من بوتين إلا أنه أمر بقذف الشيشان بالطائرات كرد فعل على التفجيرات، وكانت بداية حرب الشيشان الثانية.
واستمرت حرب الشيشان حتى ظهر العميل المُنشق وأعلن أن منفّذ التفجيرات المُخابرات الروسية بأوامر من بوتين شخصيًا، كي يتوفر على الساحة سببًا لغزو الشيشان ما يدعم بوتين في انتخابات الرئاسة عام 2000.
وبعد 3 أسابيع فقط قُتل ألكسندر ليتفينيكو بكوب مُسمم من الشاي في بريطانيا، وبعد تحقيق المخابرات البريطانية في الأمر تم الكشف عن اثنين من العملاء الروس وقد وضعوا له مادة البلونيوم المشع في كوب الشاي، وطلبت المخابرات البريطانية من بوتين تسليم العملاء المنفذين للحادث، إلا أن بوتين رفض تسليمهم.
وليتفينيكو لم يكن الوحيد الذي يمتلك أدلة ضد بوتين في حوادث التفجير المذكورة، حيث ظهر بعد مباشرة عقيد في الجيش الروسي، سيرغي يوشينكوف، وأعلن تأسيس حركة ليبرالية كحزب سياسي، مُستهدفًا فضح كافة المتورطين في هذه الجريمة بالأدلة التي بحوزته، ولكن فجأة تم اغتياله رميًا بالرصاص أمام زوجته وأبناءه لتكون بذلك هذه هي عملية الاغتيال الرابعة.
وبالرغم مما تسببت به تفجيرات الشقق الروسية من اغتيالات، إلا أنها لم توقف الضابط الروسي يوري شيكوتشين، والذي كان مسؤولا عن التحقيق في ذات القضية، والذي بدأ في طرح العديد من الأسئلة التي تؤكد تورط بوتين في التفجيرات، فكانت النتيجة موته مسمومًا، ورفضت المخابرات الروسية تسليم ملفه الطبي لأهله باعتباره أحد الملفات السرية لديها.
وبالرغم من كل تلميحات وإشارات بوتين للحياة في صمت برغم الحقائق، إلا أن حالة الترهيب لم تمنع ضابطًا مثل أليكس نفالان من الانتقاد والاعتراض، متخيلا أن مصيره قد يختلف عمن سبقوه، لدرجة بدأه في التفيتيش في الحسابات البنكية للمسؤولين الروس، وأولهم بوتين نفسه، متهمهم بالتربح والكسب غير المشروع، فكانت النتيجة تعرضه لمحاولة اغتيال في شهر أغسطس 2020، وأيضًا عبر الشاي حيث تم تسميمه، ليقع على الفور ويُنقل إلى المستشفى، ولكن تدخلت هنا الحكومة الأمانية مُطالبة بعلاجه في برلين، ولكن ماطلت روسيا في بداية الأمر، ولكن في نهايته قامت بالموافقة على الأمر.
وبالفعل ذهب لألمانيا وتم علاجه، وبمجرد الشفاء قرر العودة مرة أخرى إلى روسيا لمواجهة بوتين، وسط اعتراض أسرته وكل من حول، لكنه أصر في النهاية على العودة، وبمجرد وصوله موسكو تم إلقاء القبض عليه ووجهت إليه تهمة إنشاء وتمويل منظمة متطرفة، وحُكم عليه بالسجن 9 سنوات، ثم وجهت إليه اتهامات بازدراء المحكمة ليُحكم عليه بالسجن 19 سنة أخرى، وحاليًا يقضي فترة عقوبته في سن شديد الحراسة على بعد 150 ميل شرق موسكو.
اغتيال داخل أوكرانيا
ولم تقف اغتيالات بوتين عند المعارضة فقط أو ضباط المخابرات المنشقين أو المسؤولين في الحكومة، بل وصل الأمر إلى نواب البرلمان المُمثلين للشعب الروسي، مثل دنيس فورينكوف؛ والذي كان عضوًا في البرلمان الروسي، وبمجرد البدء في انتقادات سياسات بوتين، حذره الكرملين، ليعتذر عن عضوية البرلمان وينتقل مع أسرته إلى أوكرانيا عبر طلب “اللجوء السياسي”، حيث وصل الأمر إلى تعيين حرس شخصي مرافق له، فضلا عن توجيه أوامر بمراقبة المطارات الأوكرانية لمنع دخول الضباط الروس.
إلا أن بوتين أمر ضابط مخابرات أوكراني، قام بتجنيده مسبقًا لصالح المخابرات الروسية، باغتيال عضو البرلمان، بل الأسوأ من ذلك أن اغتياله تم في وسط الشارع بين المارة حتى يشهد الجميع على موته، كي يكون عبرة لمن يعتبر.
وعند اتهام الحكومة الأوكرانية بوتين بالتسبب في موت عضو البرلمان الروسي، نفى المتحدث باسم الكرملين هذا الأمر.
صحفيين ومُحامين
كذلك الصحفيين والمحامين، مثل الصحفية ناتاليا ستيمروفا، الشيشانية الروسية، فبمجرد أن قامت بعمل تحقيق حول عمليات القتل والاختطاف التي ينفذها الجيش الروسي في حق المواطنين الشيشان، تم اغتيالها.
كذلك الصحفية الروسية آنا بلويتكوفسكايا؛ والتي قامت بتأليف كتاب حول جرائم بوتين واتهمته بتحويل روسيا إلى دولة بوليسية، ما أدى إلى اغتيالها رميًا بالرصاص أمام منزلها.
المحامي ستانيسلاف ماركيلوف؛ قُتل فقط لمحاولته المرافعة في قضية رفعها سكان الشيشان المدنيين ضد جرائم الجيش الروسي، وعند محاولة الصحفية بابريفوا إنقاذه بعد قتله في الشارع كان مصيرها القتل هي الأخرى.
نعود مرة أخرى إلى قائد قوات فاغنر الذي حاول فقط الانقلاب على بوتين بسبب تزعمه لقوات يبلغ عددها 25 ألف جندي، لتأتي أحداث يوم 23 أغسطس الماضي، حيث أخذ قائد فاغنر طيارة خاصة لينتقل من مدينة لمدينة داخل روسيا وعند ارتفاع الطائرة إلى 28 ألف قدم انفجر جناح من أجنحة الطائرة وبدأت في منحنى السقوط الحر ووقعت على الأرض وانفجرت ومات كل من بداخلها، ومات المستهدف من العملية بالأساس “قائد قوات فاغنر” يفغيني بريجوجين، وانضم بذلك لمن سبقوه ممن حاولوا فقط معارضة بوتين.
كيف وقعت الطائرة؟
عادة ما يحدث سقوط الطائرات نتيجة لأحد الأسباب الثلاث؛
أولا: استهداف الطائرة بمؤثر خارجي، حيث تنفجر الطائرة في الجو ويقع بقاياها على الأرض على شكل قطع صغيرة وعلى مسافات متباعدة، وهو ما لم يحدث، فيتم استبعاده.
ثانيًا: حدوث عطل فني في جهاز من أجهزة الطائرة، فتنخفض الطائرة تدريجيًا حتى تقع كتلة واحدة، وهو أيضًا ما لم يحدث في الحالة المذكورة فيتم استبعاده.
ثالثًا: حدوث انفجار محدود داخل الطائرة نفسها، فيُكسر جزء من جسم الطائرة مما يتسبب في حريق داخلها وصعود دخان منها ناتج عن الانفجار، ويبدأ المتبقي من الطائرة في الوقوع بشكل زاوية قائمة، ليقع في النهاية على الأرض وينفجر نتيجة قوة اصطدامه بالأرض، وهذا هو ما حدث.
وبالتالي هذا يعني أن هناك عبوة ناسفة تم زرعها على الطائرة قبل انطلاقها، وهنا يظهر صديق لمُضيفة الطائرة، والذي قال أن قبل الرحلة بساعات تحدثت معه صديقته وأخبرته بأن رحلتها تأخرت بسبب فحص الطائرة من الجهة المسؤولة لتحديد ما إذا كان يمكنها الطيران، وأن بمجرد عودتها سوف تكلمه.
وهنا يظهر السؤال هل الجهة المسؤولة عن صيانة الطائرة متورطة في الحادث؟ وهل العبوة المسؤولة عن تفجير الطائرة تم زرعها خلال عملية فحص الطائرة؟ لا أحد يعلم إجابة هذا السؤال، ولن يعلم أحد، لأنه بالعودة إلى الماضي، يمكن القول أن التحقيق في هذه القضية سينتهي لتأييد القضية ضد مجهول.
ولكن النتيجة النهائية المعلومة هي أن الخيانة لدى بوتين عقوبتها الوحيدة هو الموت.