بقلم: هشام المغربي

في أحد أيام شهر ديسمبرمن عام 1992 كنت واقفاً ألقي محاضرة في التسويق والمبيعات، لبعض مديري الأقسام في الشركة التي شغلت منصب مديرها العام كما اعتدت أول  كل شهر، فجأة شعرت بدوار شديد وعرق غزير بارد يتصبب من جبيني، أنهيت المحاضرة سريعاً وجلست على أول مقعد بجواري، أحضر لي أحد الزملاء كأساً من الماء ارتشفت بعضاًمنه، أعزيت ما حدث للإجهاد أو قلة النوم حيث اعتدت في تلك الأيام على السهر لساعات طويلة من الليل، ولا أنل من النوم إلا أقل القليل.

غادرت المكتب سريعاً إلى البيت لأنال قسطاً وفيراً من النوم، ولكن بعد حوالي ساعة من نومي استيقظت على صوت جرس التليفون وكان على الطرف الآخر أحد الأصدقاء يريد الأطمئنان على حالتي الصحية، الحقيقة لم أكن في أحسن حال، استشعر الصديق ذلك من نبرة صوتي، وبعد دقائق وجدته أمامي بالبيت يصر أن أذهب معه إلى الطبيب الآن!

اقترح طبيبا لا يعرفه شخصياً ولكن رشحه له أحد معارفه متخصص في الأمراض الباطنية لازلت أذكر أسمه هو الدكتور سامي البلبيسي مدرس بكلية الطب، وتقع عيادته في منطقة كليوباترا الحمامات على الترام، شاب في بداية الثلاثينات من عمره في مثل عمري تقريباً في ذلك الوقت.

جلست أمامه في غرفة الكشف الصغيرة، وبدأت أشرح له ما أعانيه كما طلب مني، وإذا به فجأة يبادرني بسؤال أذهلني وبلا أي مقدمات!

مقاس حذاءك كام ؟

وبينما أنا مذهول من السؤال، أكمله بسؤال آخر هل تغير مقاس حذاءك آخر عامين عما كان عليه قبل ذلك ؟

وقفت غاضباً: لو سمحت يادكتور ما علاقة حذائي بما قَدمتُ من أجله؟ لو ممكن تكتب لي بعض الفيتامينات والمكملات الغذائية أكن لك شاكراً، ضحك الطبيب وقال لي أنا مقدر دهشتك! كان يجب عليّ أن أشرح لك شكوكي أولاً… تفضل بالجلوس، واستكمل حديثه، يا سيدي الفاضل أنا متشكك في إصابتك بمرض يسمى (أكروميجالي)

Acromegaly

 وهو زيادة إفرزات الغدة النخامية من هرمون النمو مما يسبب تورم الأطراف أو زيادة حجمها عن المعتاد ويحدث ذلك نتيجة ورم في الغدة النخامية، ثم أكمل لا تنزعج هو غالباً ورماً حميداً لا تقلق! وغير معروف حتى اليوم أسباب حدوث هذا الورم.

ثم أضاف: ولذا أقترح عمل أشعة مقطعية على المخ وبعض تحاليل قياس الهرمونات ودعنا نرى! ربما كانت شكوك فقط، ثم قال ضاحكاً وفي هذه الحالة سأكتب لك الفيتامينات التي طلبتها ياسيدي.

وقعت كلماته عليّ كالصاعقة ورم في المخ! نزلت من عيادته أجر قدمي ولا أقوى على التحدث مع أحد.

في المنزل لم أخبر أمي بما قاله لي الطبيب خوفاً عليها من الصدمة، قلت لها طلب مني عمل بعض الأشعات والتحاليل حتى يصف لي الدواء المناسب، ضحكت أمي قائلة: أطباء هذه الأيام كده  غير أيامنا كان زمان الطبيب يكتب لك دوا مناسب من غير لا تحاليل ولا أشعات ولا وجع القلب ده والمريض يخف على طول.

قلت لها: أنا غالباً ح اشوف دكتورتاني أنا مارتحتش له!

قالت أمي: روح للدكتور مرسي عرب ده أستاذ كبير وخبرة كبيرة أكيد نظرته حتكون مختلفة، الصغيرين دول لسه قدامهم كتير.

في عيادة الدكتور مرسي عرب قصصت عليه ما قاله سامي البلبيسي، فنظر إليّ ملياً، ثم قال سامي من تلامذتي وهو من النابهين، لكن ربما بالغ في التشخيص دعنا نرى … قياس الضغط كان مرتفعاً لدرجة أفزعته، أعطاني حقنة مدرة للبول، و طلب مني ألا أترك العيادة حتى يعاود قياس الضغط مرة أخرى بعد  سريان مفعول الحقنة، انخفض معدل الضغط العالي وأصبح في معدله الطبيعي.

قال لي ربما فزعك وخوفك  مما قاله سامي تسبب في ارتفاع الضغط  لديك، ثم أكمل على العموم عليك بمراقبة الضغط عدة مرات كل يوم لمدة أسبوع وأرجو أن تدون كل القياسات بكل دقة وأراك الأسبوع القادم.

قياسات الضغط على مر الأسبوع لم تكن كلها قياسية، سجلت ارتفاعاً في بعض الأيام، أو انخفاضاً طفيفاً في أيام أخرى وهكذا، ذهبت للدكتور مرسي ومعي كل قياسات الضغط كما طلب، نظر إليها ثم قال دعنا نقطع الشك باليقين، ستقوم بعمل أشعة مقطعية على المخ وسنرى كل شيء خير ان شاء الله لا تقلق.

الأشعة أظهرت ورماً في الغدة النخامية كما توقع الدكتور سامي البلبيسي، (هذا هو الأسم العلمي لورم الغدة النخامية الحميدAdenoma).

عندما علم د.عرب بذلك قال لي: مش عايزك تقلق على العموم دي عملية دقيقة جداً كونها في قاع الجمجمة، دعني أرشح لك أحد الأطباء الذين أثق في قدرتهم بعد أن أتحدث معه وسأتصل بك غداً على الأكثر.

ضحكت قائلاً: ورم في الغدة النخامية في الجمجمة وتطلب مني ألا أقلق!

ضحك د.عرب قائلاً:  والله لو تشوف بعض الحالات التي أعاينها ستعرف أن ما لديك لعب عيال.

شكرته مودعاً: أنا في انتظار رد حضرتك.

كان جرس التليفون بالبيت لا يكف عن الرنين وأمي بالمطبخ بعيدة عنه فلم تسمعه، التقط السماعة وكان على الطرف الآخر شقيقتي تتحدث من سويسرا التي تقيم بها منذ سنوات، بعد السلامات ومن خلال صوتي الذي لم استطع إخفاء نبرة الحزن به استشعرت أن هناك شيئاً ما، أخبرتها بما حدث بالتفصيل.

صرخت قائلة: على أول طائرة متجهة إلى زيورخ تحجز ولا تتردد.

في البداية رفضت فكرة السفر ولكن أمام صريخها وبكائها قبلت بشكل مبدئي على ألا يكون السفر سريعاً.

عاودت الصراخ قائلة: يا هشام أنا دكتورة وعارفة خطورة أن تجري عملية بالمخ في مصر! لا قدر الله قد يحدث أي خطأ سيكون الثمن باهظاً … شلل، فقدان البصر أو غير ذلك الله أعلم .

التزمت الصمت قليلاً، ثم قلت لها دعيني الآن وسأرد عليك بعد تدبير أموري.

بسطت الموضوع قدر المستطاع على أمي لعلمي أنها ستنهار إذا عرفت التفاصيل، فقلت لها مطلوب إجراء جراحة بسيطة جداً بالأمعاء وابنتك مصممة على إجراء هذه الجراحة بسويسرا!

صمتت أمي لحظات ثم قالت: أنت لم تشتكي في حياتك من الأمعاء ماهذا التشخيص الغريب، قلت لها أن د. عرب نصحني بعلاجه الآن بعد اكتشافه بالأشعة حتى لا يتفاقم بعد ذلك.

اتصل بي د. عرب وقصصت عليه ما قالته شقيقتي.

تهلل قائلاً: لا تتردد إذا كان لديك فرصة للعلاج بالخارج طبعاً أفضل كثيراً ليس فقط لتقدم الطب هناك ولكن لخدمة التمريض خلال العملية وما بعدها أيضاً، ربما لدينا أفضل أطباء في العالم لكن الطب ليس أطباء فقط هي منظومة متكاملة …. يا هشام من كافة النواحي هناك أفضل.

لهجة د. عرب أوحت لي أن إجراء تلك العملية المعقدة في مصر ليس مأمون النتائج وإن لم يقل ذلك صراحة، عقدت العزم على السفر قمت باستخراج فيزا من السفارة السويسرية بالقاهرة وحصلت عليها في نفس اليوم وكانت لمدة شهرواحد بغرض السياحة كما طلبتها.

حجزت بطاقة السفر وتركت العودة مفتوحة التاريخ فلا أعرف ماذا تخبيء لي الإقدار.

Meilen

استقبلني زوج شقيقتي في المطار واتجهنا معاً بسيارته إلى حيث يقيمان في مقاطعة مايلن وعلى مقربة من بحيرة زيورخ الكبرى كما يسمونها وتتميز تلك البحيرة بمياه صافية نقية بلا شوائب وتعتبرمياهها الأنظف عالمياً ويمكن الشرب منها بلا أي ضرر يذكر.

كانت شقيقتي قد حجزت لي موعد مع أحد أهم أطباء المخ والأعصاب في المدينة السويسرية الشهيرة

د. رودولف روديه، وكما فهمت منه أن هذه العملية معتادة بالنسبة له ويقوم بإجرائها عدة مرات كل شهر وأن التقنية المستخدمة هي تقنية المنظارالميكروسكوبي من الأنف إلى قاع الجمجمة وأنه لن يقوم بفتح الرأس كما كنت أتصور قبل السفر، وأن نسب النجاح تقترب من المائة بالمائة وغير ذلك من إظهار لمهاراته وقدراته، ثم أخبرنا عن أتعابه لهذه العملية مادمت غير خاضع للتأمين الطبي في سويسرا وكانت مبلغاً ضخماً بالفرنك السويسري يصل لحوالي مائة ألف فرنك سويسري، هذا غير مصاريف المستشفى التى ستصل إلى مبلغ مقارب من أتعابه وهي مبالغ لم تكن متوافرة معنا مجتمعين وقد فاقت بكثير كل توقعاتنا.

عدت إلى البيت وقررت أن أنسى أو أتناسى  تماماً ما حدث، وأن أقضي فترة استجمام بالمدينة السويسرية الساحرة  قبل العودة إلى مصر وأن أقوم بعمل العملية في مصرأي كانت النتائج وكل شيء بأمر الله!

مرت الأيام وكأنها الدهر، باءت كل محاولاتي للنسيان بالفشل، في مخيلتي ماذا يمكن أن يحدث لي لو لا قدر الله لم تنجح العملية؟ لم تكن مخاوفي من الموت فهو علينا حق، لكن جل قلقي كان أن أعيش عاجزاً.. مريضاً .. مقعداً بلا عمل .. كادت الهواجس تقتلني، كنت أخرج من البيت في الثامنة صباحاً ولا أعود قبل السابعة مساءً، وهو موعد إغلاق كافة المحلات التجارية والأنشطة العامة وتتحول مدينة زيورخ إلى مدينة أشباح (لا وحش يسير ولا طير يطير) مثلها في ذلك مثل أغلب المدن الأوربية.

عدت يوماً من رحلتي اليومية المعتادة وجدت شقيقتي في حالة مزاجية رائعة تهللت فرحاً عند قدومي صائحة: فرجت والله خلاص ح تعمل العملية بتكلفة زهيدة جداً لا تتخيلها ….. ممكن أرخص من مصر، و قبل أن أعرف أي تفاصيل  جلست مستمعاً  باهتمام بالغ، ثم أكملت  حديثها بحماس شديد: حتعملها إن شاء الله لكن مش في سويسرا! في لوكسمبرج!

لقد عكفت طوال الأيام الماضية على الأتصال بكل من أعرف في سويسرا شارحة لهم حالتك بالتفصيل واليوم عرفت من صديقتي السويسرية (فراو/ فيدال) أن لها صديقة عادت لتوها من لوكسمبرج بعد إجراء عملية ناجحة بالمخ وقد أزالت ورماً بحجم ثمرة البطاطس!

والأهم أنها عادت بصحة جيدة وفي حالة رائعة، طلبت منها كل التفاصيل عن الطبيب المعالج والمستشفى والتكلفة وقد قامت مشكورة  بارسال كافة البيانات لي اليوم، و قمت بالإتصال بالطبيب هناك وعرفت كل التفاصيل الخاصة بالعملية والتكلفة وكل شيء.

كان خبراً سعيداً بلا أدنى شك بعد قرابة ثلاثة أسابيع من القلق والحزن والأوهام ها هي بارقة أمل تظهر في الأفق.

في اليوم التالي توجهت إلى سفارة لوكسمبرج بزيورخ لإستخراج فيزا للسفر هناك وبعد اطلاعهم على جواز سفري كان الجواب كالآتي: أولاً نحن لا نستطيع منحك التأشيرة لأن جواز سفرك مصري وفي هذه الحالة لابد أن تأخذ التأشيرة من مصر وليس من سويسرا، ثانياً أن الفترة الباقية في تأشيرتك السويسرية  أقل من أسبوع وهي ليست فترة كافية لمنحك أي تأشيرة أخرى!

طلبت مقابلة القنصل وشرحت له كل التفاصيل، نظر إليّ باهتمام وتعاطف وقال: أمامك أحد حلين إما أن تعود إلى مصر وتحصل على التأشيرة من سفارتنا هناك أو أن تطيل فترة بقاءك في سويسرا لمدة شهر آخر على الأقل وقد أستطيع بعد إرفاق فاكس من الطبيب في لوكسمبرج  يشرح فيه حالتك أن أعتبرها حالة طارئة وأن أحصل لك على تأشيرة من هنا .

أخترت طبعاً الحل الثاني وهو محاولة مد فترة الإقامة بسويسرا لشهر آخر.

ذهبت مع شقيقتي إلى الجهة الإدارية المختصة بمد الإقامات (بوليس الأجانب) وعلمنا هناك أن من حقي أن أقيم لثلاثة أشهر كاملة لديها دون تقديم أي أسباب كونها شقيقتي، بذلك أمدوا لي الإقامة لشهرين آخرين.

عندما توجهت بعد ذلك إلى سفارة لوكسمبرج لأطلعهم على مد الإقامة كما طلب القنصل كانت المفاجأة أن التأشيرة التي سأحصل عليها  لن تكون أكثر من تأشيرة ليوم واحد فقط! وهذا أقصى ما يمكن عمله كما فهمت منهم وعليّ أن أمد هذه التأشيرة من هناك في لوكسمبرج فور وصولي.

حمدت الله على ذلك وقمت بالتوجه وحيداً إلى لوكسمبرج حيث تعذر سفر أي شخص معي لأسباب مختلفة بكل منهما.

استقبلتني عاصفة ثلجية بعد خروجي من مطار لوكسمبرج الدولي مرحبة بوصولي إلى أراضيها، وقد اكتسى كل شيء باللون الأبيض من الأشجار إلى المباني إلى السيارات حتى ملابسي الثقيلة وشعر رأسي الذي اكتسى أيضاً باللون الأبيض وكانت فرصة لي أن أرى كيف سأبدوا عندما يصل الشيب إلى منبت الرأس.

توجهت مباشرة إلى المستشفى الجامعي بلوكسمبرج وهو يعادل المستشفى الميري لدينا هنا بالإسكندرية  مع بعض الفروق الطفيفة (خليها طفيفة حتى لا نصاب بصدمة حضارية)، سألت عن بروفوسير(ماتشه) رئيس قسم المخ والأعصاب بالمستشفى الجامعي هناك.

مكتبه عبارة عن غرفة صغيرة جداً بها مكتب صغير يجلس إليه وأمام المكتب مقعدين صغيرين وطاولة صغيرة بينهما، قام ليستقبلني من عند الباب  كان في الخمسينات من عمره تقريباً طويل القامة بشوش الوجه هاديء الطباع ملامحه أوربية لاتخطأها العين شعر أشقر أشيب وعينان زرقاوان لامعتان .

طلبت منه خطاب موجه إلى بوليس الأجانب لمد الـتأشيرة التي ستنتهي بعد عدة ساعات من الآن.

ابتسم وقطع ورقة من رزنامة يومية على مكتبه لا تتجاوز حجم كف اليد الصغيرة وكتب أن صاحب هذا الخطاب قد يحتاج لإقامة شهر لدينا بالمستشفى، أعطاني الخطاب هكذا بخط اليد وقد لاحظ اندهاشي من شكل الورقة الصغير واختصار المطلوب في عدة كلمات … فعقب على اندهاشي الذي ظهر من نظرتي للورقة دون أن أتكلم … قائلاً: أولاً هؤلاء لايستحقون أكثر من تلك الورقة التي أمامك.

ثانياً لا تنزعج من فترة الشهر لأنك لن تحتاج لأكثر من أسبوع واحد فقط .

كان يوم جمعة أي نهاية الأسبوع فقال أنا لا أنصحك بالإقامة من الآن بالمستشفى حيث ستضيع يومين على الأقل بلا أي ضرورة لذلك والإقامة هناليست رخيصة ذلك لأن كل الأقسام  بالمستشفى ستكون مغلقة يومي السبت والأحد، لذا أقترح أن تختار أقرب فندق بجوار المستشفى لتمضي به اليومين القادمين على أن تكون هنا فجر يوم الأثنين القادم في الخامسة صباحاً على الأكثر.

شكرته وسارعت للحاق بمكتب بوليس الأجانب الذي لا أعرف مكانه واليوم نهاية الأسبوع وبعده إجازة ليومين والـتأشيرة ستنتهي بعد عدة ساعات من الآن ..

سألت موظفة الاستقبال الفتاة العشرينية الرقيقة هل من الممكن أن أترك أمتعتي باستقبال المستشفى  حتى يسهل عليّ التحرك متحرراً من أمتعتي، على أن أعود بعد ساعة على الأكثر  لأستلامهم وكنت مرتبكاً ومتعجلاً في ذات الوقت للحاق بهم قبل مغادرتهم المكتب، قالت: بكل سرور.

وقبل أن أتركها وأغادر المستشفى سألتهاعن مكان إدارة بوليس الأجانب؟ قالت لا أعرف …

ابتسمت لها شاكراً، واتجهت مسرعاً إلى باب الخروج  وقبل أن أنصرف يبدو أنها قد رقت لحالي  فنادتني.. مسيو … مسيو… إلتفت خلفى وعدت إليها  فبادرت بالقول مبتسمة: دعني أسأل لك دليل الهاتف حتماً سأعرف أين وساعات عمل  المكتب وكل التفاصيل، في دقائق كان معي كل التفاصيل، شكرتها وخرجت مسرعاً إلى الشارع حيث يقف عشرات سيارات الأجرة في انتظار الدور، وصلت لهم قبل الإغلاق بحوالي ساعة تقريباً، سألت عن الموظف المسؤول قالوا غير موجود انتظر حتى يأتي، جلست منتظراً بعد عدة دقائق دخل شخص متوسط القامة، أصلع، بدين بعض الشيء، يحمل في يده كيس به عدة أرغفة من الباجيت وكيس آخر به بعض المأكولات وفي اليد الأخرى شمسية مفتوحة لحمايته من المطرالمنهمر في الخارج أغلقها فور دخوله إلى المبنى، تحدث مع أحد العاملين بصوت هامس ثموتوجه إلى إحدى الغرف المغلقة، وبعد عدة دقائق أخرى جاء من يقول لي أن أدخل إلى الشخص المسؤول وإذا به صاحب كيس الباجيت والشمسية!  جلست وعرضت عليه الموضوع، طلب جواز السفر أخذ يقلب في صفحاته ثم ختمه بتأشيرة إقامة شهر اعتباراً من اليوم.

شكرته وانصرفت عائداً إلى استقبال المستشفى لأخذ  أمتعتي التي تركتها لدى موظفة الاستقبال فلم أجدها سألت عنها قالوا لقد غادرت المستشفى لإنتهاء الشيفت الخاصة بها!

أين أمتعتي؟ ألم تترك لكم شيئاً؟

قالوا لا نعرف لم تترك شيئاً! بعد لحظات من القلق

خطر لي أن أسأل إذا كان لديهم غرفة أمتعة (كلوك روم) قالوا نعم خلفك تماماً

توجهت إليهم وسألت إذا تركت موظفة الاستقبال لديهم شيئاً؟

قالوا نعم … وأحضروا ليّ أمتعتي ….تنفست الصعداء وجدت مع الأمتعة خطاباً مغلقاً قالوا لي لقد تركت لك هذا الخطاب أيضاً.

كتبت فيه بالإنجليزية:

عزيزي… لقد قمت بترك أمتعتك (بالكلوك روم) للحفاظ عليها حتى تأتي لتأخذها وقتما يسمح وقتك.

وكان يجب أن أطلب منك ذلك عندما تركتهم لديّ، لكني لم أفعل لأني لاحظت عليك القلق والتعجل في مغادرة المستشفى فلم أثقل عليك وقمت أنا بذلك بدلاً منك.

كل الأمنيات بوقت طيب في لوكسمبرج.

بقي الآن البحث عن فندق قريب !!!

ماذا أفعل؟ جلست في الاستقبال على أحد الفوتيهات الجلدية الفاخرة علني أجد مخرج وجدت أمامي على الطاولة دليل (اليلو بيدج) تصفحته وكان بالفرنسية

بحثت عن الفنادق ثم عنوان كل فندق مقارنة بمكان المستشفى حيث يكتب أسفل إسم الفندق كم يبعد عن المستشفى يعني ولا أروع من ذلك!  بحثت حتى وجدت (موتيل) يبعد عن المستشفى فقط ثلاثة أميال.

يا بركة دعاء الوالدين  …

توجهت إلى هناك لقضاء ثلاثة ليالي قبل المغادرة صباح الإثنين كما اتفقت مع بروفسير( ماتشيه)

يقع الموتيل على ناصية شارع عريض مساحة الموتيل صغيرة جدا  مصنوع بالكامل من الخشب، مدخل للاستقبال يعلوه  دور علوي واحد فقط،عبارة عن خمس غرف وكانت هناك غرفة شاغرة بالفعل قمت بحجزها على الفور.

أخبرتني صاحبة الموتيل حيث تعمل هي وزوجها فقط في هذا الموتيل ولا أحد غيرهما عليك أن تعرف الآتي:

اولاً: هذا الموتيل للنوم فقط لا غير وبالتالي لا توجد هنا أي وجبات ولا حتى مشروبات فلا يوجد لدينا مطبخ من الأساس، ولكن يوجد لدينا ثلاجة للماء وعصائر الكانز بالعملات المعدنية إذا أردت وأشارت إلى مكانها بالمدخل .

ثانياً: إذا أردت موعداً للإستيقاظ مبكراًعليك أن تخبرنا قبلها بوقت كاف.

ثالثاً: أذا أردت أن نطلب لك سيارة أجرة عليك أيضاً أن تخبرنا قبلها بوقت كاف

رابعاً: خلف باب غرفتك توجد بعض الإرشادات كتبت بثلاث لغات يجب أن تقرأها جيدا قبل مغادرة الغرفة.

خامسا: اليوم جمعة والساعة الآن الرابعة بعد الظهر أمامك فقط ساعتان قبل إغلاق المحلات العامة وعليك الآن التوجه إلى السوق للبحث عن مأكولات تكفيك اليومين القادمين حيث لن تجد مكاناً واحداً مفتوحاً يومي السبت والأحد.

تركت أمتعتي بالغرفة وسارعت إلى السوق دخلت أحد المخابز وكان لديه أيضاً قسماً كبيراً للجبن والأنشوجة والبطارخ والكافيار والسومونوغير ذلك  من فواتح الشهية .

اشتريت الخبز أولاً ثم وقفت أمام أنواع الجبن مذهولاً من كثرة وتعدد الأنواع والأشكال التي تصل إلى أكثر من مائة نوع على الأقل … اخترت نوعين من الجبن هما الأكثر شبهاً لما أعرفه من الجبن في مصر حتى لا أغامر بأنواع قد لا تعجبني !  الأول جبنة تشبه الجبنة البيضاء الدوبل كريم لها قوام كريمي والثاني جبنة شيدر وأنبوبة من الكافيار وخرجت ومعي هذا الزاد سعيداً متجهاً إلى الموتيل، ولم أنسى أن أمر على أحد المكتبات لشراء كتاب يؤنس وحدتي خلال اليومين القادمين، أشتريت كتاب صغير عن تاريخ لوكسمبرج.

أثناء السير تشممت رائحة كريهة جداً ولا أعرف مصدرها تلفت حولي فلم أعثر على شيء، ورغم نظافة الشوارع وبريقها اللافت إلا إني تصورت ربما قد مشيت فوق شيء له رائحة كريهة بحثت جيداً ولم أجد شيء، والرائحة تزداد وتصل إلى أنفي فتزكمه، ظل الحال هكذا حتى وصلت إلى الموتيل وإذا بي أكتشف أن هذه الرائحة الكريهة قادمة من احد الأكياس التي أحملها وتحديداً من عبوة الجبن الأبيض الدوبل كريم الكريمي فتخلصت منها على الفور ولم أشأ أن ألقيها في سلة مهملات حجرتي فخرجت إلى الشارع وألقيتها في أقرب سلة وجدتها أمامي .

يعني نشنت يافالح من أكثر من مائة نوع جبن ولا أجد غير هذا النوع!

علمت بعد ذلك أن هذا النوع من الجبن هو من أغلى وافخر أنواع الجبن  الفرنسي وأن رائحته تلك هي سبب ارتفاع سعره ويسمى (كممبرت) ولله في خلقه شؤون.

هي مسألة ثقافات يعني مثلا حب ولهفة المصريين على الفسيخ والنهم في التهامه بشراهة قد يصيب بعض الشعوب بالإغماء من مجرد رائحته وليس تذوقه .

في صباح اليوم التالي السبت قررت مغادرة الغرفة والخروج مترجلاً إلى الشوارع والميادين لأشاهد المدينة على مهل دون عجلة المشاوير ولهفة الوصول في الموعد وغير ذلك.

سرت في أحد الشوارع الرئيسية الكبرى ولم يكن هناك شخصاً غيري دون أدنى مبالغة على مدى النظر ليس هناك شخصاً واحداً يسير في الشارع ظل الحال هكذا لمدة ربع ساعة تقريباً والمحال على صفي الشارع مغلقة، سمعت صوت أقدام تسير خلفي نظرت وجدت أحد العمالقة السود يحمل في يده جنزيراً من الحديد ويلوح به في الهواء، تظاهرت بعدم الاكتراث وعاودت السير، وهو خلفي خطوة بخطوة، عبرت الشارع إلى الرصيف الآخر وإذ به يعبر الشارع خلفي، انحنيت لأعيد ربط حذائي وإذا به يتوقف عن السير تماماً مثلي تأكدت أنه يقصدني وأنني قد أصبحت هدفاً له، سارعت الخطى لأصل لنهاية الشارع علني أجد أحداً ًسائراً أو قادماً من شارع آخر، سارع الخطى مثلي تماماً، أيقن هو الآن أنني أخشاه، نظرت أمامي فوجدت محطة وقود ليس بها أفراد  كانت محطة (خدمة ذاتية) عبرت الشارع ودخلت المحطة فدخل خلفي كان بالمحطة كشكاً زجاجياً صغيراً (ميني ماركت) وبه فتاه تجلس خلف ماكينة  لبيع بعض المنتجات البسيطة من البوبون والشيكولاته والسجائر وخلافه كانت هي طوق النجاة بالنسبة لي أخبرتها أن هناك من يتتبعني وطلبت منها أن تخبر البوليس، خرجت مسرعة من الكشك فلم تجد أحداً خرجت بعدها  فلم أجده كان فص ملح وذاب، نصحتني أن تطلب لي سيارة أجرة إيثاراً للسلامة، وبعد دقيقة واحدة وصلت السيارة وقررت بعدها عدم مغادرة الفندق حتى موعد المستشفى في فجر يوم الأثنين.

كانت المستشفى فجر الأثنين مثل خلية النحل الأطباء والممرضين يسرعون الخطى عبر الممرات والدهاليز وعربات الدواء والحقن تتلاحق من كل جانب، ورائحة المطهرات تملىء الأنوف في كل مكان.

سألت عن غرفتي وكانت عبارة عن غرفة متوسطة الحجم وبها بجوار فراشي، فراش آخر كان  يجلس عليه مريض يشكو من آلام بالعمود الفقري ومن المقرر إجراء عمليه له في اليوم التالي.

سألني عن مرضي فقلت له سأقوم بعمل عملية جراحية في الأنف، عاود السؤال هل كسرت  أنفك مثلاً؟ فقلت له نعم هذا بالضبط ما حدث, نظر لي باهتمام قائلاً هل أنت ملاكم؟ ابتسمت له قائلاً:  نعم… كيف عرفت؟ لابد أن إدارة المستشفى  قد أخبرتك بذلك…

اتسعت عيناه صائحاً: لا… لقد عرفت ذلك بمفردي أنا لديّ حاسة سادسة أعرف الأشخاص بمجرد رؤيتي لهم .

قلت له: لكن ماحدث لأنفي لم يكن في حلبة الملاكمة ولكنه كان شجاراً مع أحد الأشخاص في الشارع….. حطمت رأسه … أنا عندما أغضب لا أعرف ماذا أفعل هذه طبيعتي, أقترب مني مصافحاً أرجو أن تقبل صداقتي .. يسرني معرفتك …هل يلزمك شيء .

لم أتمالك نفسي من الضحك وتظاهرت بالسعال حتى لا يلحظ ذلك .

بعد دقائق حضر لي البروفسير ماتشيه وأخبرني أن اليوم سوف يخصص لإجراء كافة الأشعات والتحاليل اللازمة قبل إجراء العملية التي ستكون الأربعاء إذا سمحت نتائج التحاليل بذلك.

خرجت من العملية التي استغرقت خمس ساعات كاملة كما علمت بعد ذلك فتحت عيني وجدت حولي العشرات من الأطباء والمساعدين وكل منهم يسألني سؤال : ما أسمك؟ أين أنت الآن ؟ من أي بلد أتيت ؟ ماذا تفعل هنا ؟ هل تعرفني ؟ ممكن تصافحني ,وهكذا…

كلها كانت أسئلة لفحص قدراتي الذهنية والدماغية بعد العملية.. الحمد لله نجحت العملية ربت على صدري د. ماتشيه قائلاً أنت رائع كل شيء كان على مايرام، تحسست رأسي فوجدت شيئاً مثل الشاش فصرخت هل فتحت رأسي؟ سارع قائلاً لا ..لا… أبداً وطلب من أحد مساعديه أن يزيل هذا الشاش على الفور.

قال لي البروفسير ماتشه سننقلك الآن إلى العناية الفائقة لمدة يوم واحد فقط إذا سارت الأمور بشكل طبيعي ستنتقل لغرفتك العادية في اليوم التالي .

في صباح اليوم التالي في غرفة العناية الفائقة حضر اليّ اثنتين من الممرضات كانتا في غاية الرقة والجمال اقتربا من الفراش يجران عربة بها إناء ماء كبير وبعض المستحضرات  وقالتا لي :الآن سنقوم بتحميمك!

قلت ماذا؟ : أنتما ؟ قالا : نعم

قلت لهما ولكن الخراطيم والأجهزة معلقة في يدي وفي جسمي فكيف ذلك؟

ضحكت أحداهن قائلة: لاتقلق هذا عملنا… وأضافت الأخرى : لن تشعر بأي ألم صدقني.

كن يتحدثن إنجليزية بلكنة فرنسية طريفة

استسلمت لهما ولسان حالي يقول بلهجة محمد هنيدي: ( يا مستشفياتك يا لوكسمبرج)  .

خرجت إلى غرفتي العادية بعد يوم واحد من البقاء في غرفة العناية الفائقة، كنت قد سجلت عند دخولي المستشفى في إستمارة الدخول أنني نباتي حتى لا أضطر إلى أكل لحم الخنزير أو لحوم غير نظيفة, فكان من الأفضل لي ذلك

كان غداء أول يوم عبارة عن خضار السباراجس المسلوق (هو ليس معروفاً في مصر يشبه عيدان الفاصوليا الخضراء ولكنه أسمك وأطول) وقطع من الجزر والبنجر المسلوق أيضاً وكسرة خبز صغيرة والحلو جيلي بالموز

حاولت تذوق هذه الأكلات فلم أستطع فتركتها كلها واكتفيت بالجيلي.

بعد أقل من ساعة جاء إلي طبيب نفسي كما عرفني بنفسه، يسأل لماذا رفضت الأكل؟ هل هناك ما أزعجني ؟

هل لازلت خائفاً من آثار العملية؟ كانت إجابتي أن لا شيء من ذلك فقط لم يعجبني الأكل

بعده جاءني البروفسير ماتشه شخصياً ماذا بك؟ لقد راجعت إستمارة الدخول ووجدت أنك قد دونت بها (نباتي)  أليس كذلك ؟

قلت له نعم ولكن الأكل لم يرق لي هذا كل ما في الأمر.

نظر لمساعدته وطلب منها مضاعفة كمية الفاكهة المسموحة لي كذلك الجيلي أو الحلويات والعصائر عوضاً عن الخضروات.

بعد ساعة تقريباً دخلت مدربة رياضية وأخبرتني أنها ستبدأ معي من الغد  بعض التمارين الرياضية الخفيفة وأنا بالفراش ثم بعد يومين سأتحرك معها للفناء الخارجي لممارسة تمرينات أخرى في الهواء الطلق.

في نهاية الأسبوع جاءني بروفسير ماتشه بشوشاً كعادته صافحني قائلاً : كل التحاليل قد أثبتت أن حالتك ممتازة الآن وتستطيع أن تخرج غداً وسوف أرسل لك تقريراً كاملاً بكل ماتم معك لتعرضه على طبيبك بمصر للمتابعة وعلى كل الأحوال هاتفي الخاص معك إذا أردتني في شيء لا تتردد في اللاتصال بيّ يسعدني ذلك.

صافحته بحرارة شاكراً له كل ما قام به من أجلي ووعدته  بمداومة الإتصال به من مصر.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version