وكالات:

إنها القارة السمراء التي كانت ملعباً فرنسياً خالصاً تقريباً، فماذا حدث لنفوذ باريس؟ وكيف تحولت إلى ضيف ثقيل لم يعد قادراً حتى على أن يفرض نفسه بالقوة على أهل الدار؟

فبحكم ماضيها الاستعماري الممتد ومنحها استقلالاً صورياً لمستعمراتها السابقة في إفريقيا منذ ستينيات القرن الماضي، كانت فرنسا تمتلك أوراقاً كثيرة ومتعددة للاحتفاظ بنفوذها في القارة السمراء.

وعندما دخل إيمانويل ماكرون إلى قصر الإليزيه عام 2017، كان استعادة النفوذ الإمبراطوري لفرنسا طموحاً لا يخفيه، حتى وإن استخدم “لغة عصرية” للتعبير عنه! فكيف أصبح ماكرون نفسه شاهداً على نهاية نفوذ باريس في ملعبها الأسمر؟

قصة إفريقيا الفرنسية يمكن تلخيصها في مقولة: “وانقلب السحر على الساحر”، فعندما غيرت فرنسا أساليب الاستعمار الخشنة والوحشية بمنح مستعمراتها في إفريقيا استقلالاً شكلياً أو “منقوصاً”، وظفت الانقلابات ودعم المستبدين والفاسدين في سدة الحكم لضمان استمرار تدفق خيرات المستعمرات نحو “عاصمة النور”، بينما تعاني شعوب تلك المستعمرات من الجوع والفقر والمرض!

خريطة النفوذ الفرنسي في إفريقيا

منذ أجبرت التحولات العالمية الكبرى، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، القوى الاستعمارية الأوروبية على مغادرة مستعمراتها في إفريقيا وآسيا، كانت لفرنسا تحديداً طريقة مختلفة في التكيف مع تلك التحولات.

نعم، منحت فرنسا مستعمراتها الاستقلال، لكنها لم تغادر بشكل نهائي وإنما غيرت شكل العلاقة مع أغلب تلك المستعمرات، وبخاصة في قارة إفريقيا. وإذا كان الاستعمار التقليدي كان يقوم على قمع الشعوب المستعمرة ونهب خيرات تلك البلاد بالقوة المسلحة، فإن باريس أضفت شكلاً مختلفاً على علاقتها بتلك المستعمرات في مرحلة ما بعد “الاستقلال”.

أصبح لتلك المستعمرات حكومات ورؤساء وجيوش محلية وحدود، متداخلة ومثيرة للمتاعب في أغلب الأحيان، لكن ظل قرارها السياسي ونظامها الاقتصادي وعلاقاتها مع العالم مرهوناً بما تقرره باريس، وما تقرره باريس بطبيعة الحال يضع مصالحها فوق كل اعتبار!

فرنسا الإفريقية (فرانس-أفريك Fancafrique) كان مصطلحاً يشير إلى الدول الناطقة باللغة الفرنسية في القارة السمراء، وهذه الدول كانت تمثل خريطة النفوذ الفرنسي في إفريقيا في مرحلة ما بعد الاستعمار التقليدي.

وهذه الخريطة كانت تضم توغو وجمهورية الكونغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا والسنغال وساحل العاج والكاميرون وبوروندي وتشاد وجزر القمر والغابون وبوركينا فاسو ومدغشقر وبنين وتونس والمغرب وغينيا والنيجر وجيبوتي ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموريتانيا والجزائر، إضافة إلى بلدان أخرى مثل غينيا الاستوائية اكتسبت فرنسا النفوذ فيها بعد استقلالها عن إسبانيا.

وكانت الدول الفرنكفونية (الناطقة جزئياً أو كلياً باللغة الفرنسية) تشكل حوالي نصف دول قارة إفريقيا ويقطنها زهاء ثلث سكان القارة، واعتمدت فرنسا على مستعمراتها السابقة كأساس لمنظمة الفرنكفونية (50% من أعضاء المنظمة الأساسيين)، التي كانت تعد من أهم أدوات السياسة الثقافية الفرنسية وقوتها الناعمة في العالم. ويوجد أعلى معدل استخدام للغة الفرنسية في إفريقيا.

ومنذ استقلال الدول الإفريقية في 1960، تدخلت فرنسا في القارة عسكرياً أكثر من ثلاثين مرة. وكذلك، فرنسا لها قواعد عسكرية في الغابون والسنغال وجيبوتي بالإضافة إلى أراضيها في مايوت ولا ريونيون في المحيط الهندي. وكان الجيش الفرنسي موجوداً في مالي وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى والصومال وساحل العاج. ويوم 14 يوليو/تموز 2013، مشي جنود من 13 دولة إفريقية مع العسكرية الفرنسية في مسيرة يوم الباستيل في باريس لأول مرة منذ حلّ الجيش الفرنسي الاستعماري.

وفي عام 1962 كلف الرئيس الفرنسي شارل ديغول مستشاره جاك فوكار بصياغة علاقة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة في إفريقيا، ويطلق على فوكار لقب “مهندس الاستعمار الفرنسي” الحديث لإفريقيا.

باول ملي من معهد شاتم-هاوس البريطاني قال لموقع دويتش فيله إن تلك العلاقة بين القادة الفرنسيين والنخب في البلدان المستقلة حديثاً كانت “غير شفافة وأبوية وفيها تحكم”. وأبرم فوكار عقوداً مع حكام تلك البلدان لا تزال سارية حتى اليوم: مقابل الحماية العسكرية والحماية من الانقلابات وفي مقابل ملايين من الدولارات كعمولات ضمنت الدول الإفريقية للشركات الفرنسية استغلال الموارد الاستراتيجية كالألماس واليورانيوم والغاز والنفط.

قبضة فرنسا المالية.. الفرنك الإفريقي

لم تترك فرنسا شيئاً للصدفة أو للاحتمالات فيما يتعلق بضمان استمرار قبضتها المهيمنة على مستعمراتها السابقة في إفريقيا، فكانت لقمة العيش أو الاقتصاد أهم أدواتها على الإطلاق. ومن هنا جاءت قصة الفرنك الإفريقي، الذي فرضته عملة موحدة في مستعمراتها السابقة منذ ستينيات القرن الماضي.

وتعتبر منطقة الفرنك الإفريقي من أقدم الاتحادات النقدية في العالم، فعمرها يقترب من 7 عقود، ورغم ذلك فتلك العملة هي الأضعف بين العملات الموحدة في العالم، وتعكس المؤشرات التنموية والاقتصادية والاجتماعية لتلك الدول أوضاع شعوبها المنكوبة بنفوذ باريس وتبعاته الكارثية.

فعلى الرغم من الثروات الطبيعية الهائلة التي تتمتع بها الدول الواقعة تحت النفوذ الفرنسي، إلا أن سكانها يلجأون غالباً إلى الهجرة السرية نحو أوروبا بحثاً عن موارد الرزق والعيش الكريم. وتضم منطقة الفرنك الإفريقي مجموعتين نقديتين، وهما “الفرنك الوسط إفريقي”، ويستخدم في كل من الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية والغابون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد. أما “الفرنك الغرب إفريقي” فيستخدم في بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو.

وتفرض باريس على تلك الدول أن تودع ما يصل إلى 65% من احتياطياتها النقدية في الخزانة الفرنسية، كما أن الفرنك يطبع في فرنسا ويتم تقييمه باليورو (وكان يقيم بالفرنك الفرنسي قبل اليورو)، وذلك بناء على “اتفاق” بهذه الشروط، وافقت عليه بالطبع حكومات جاءت إلى السلطة بقرار فرنسي في أغلب إن لم يكن جميع الحالات.

باختصار، كانت الهيمنة الفرنسية على منطقتي وسط وغرب إفريقيا شاملة كاملة متكاملة وكانت خيرات تلك الدول، بل واللامعين من أبنائها لهم طريق واحد ووجهة واحدة وهي باريس!

بداية النهاية لنفوذ باريس

متى بدأ النفوذ الفرنسي الطاغي والمهيمن في إفريقيا في التراجع؟ من الصعب رصد تاريخ بعينه كإجابة لهذا السؤال، خصوصاً أن مقاومة هذا النفوذ والسعي للفكاك منه كانت حاضرة طوال الوقت، لكن القبضة الفولاذية لباريس كانت دائماً أقوى وتسحق أي محاولة دون رحمة.

لكن السنوات العشر الأخيرة تحديداً شهدت تحولات كبرى، ليس فقط في إفريقيا وإنما حول العالم، وساعدت تلك التحولات بصورة أو بأخرى في إرخاء قبضة فرنسا على مستعمراتها السابقة في القارة السمراء شيئاً فشيئاً.

وكان لدخول منافسين كثر للنفوذ الفرنسي في إفريقيا دور مهم في الزلزال متدرج القوة الذي أطاح مؤخراً بذلك النفوذ أو كاد. أبرز هؤلاء المنافسين روسيا والصين، اللذان وفرا بديلاً اقتصادياً وعسكرياً لكثير من مستعمرات فرنسا السابقة، فبدأ سلاح فرنسا الأبرز في ضمان استمرار قبضتها المهيمنة، وهي الانقلابات العسكرية، في التحول إلى سلاح ذي حدين. إذ لم تعد الانقلابات، أو أغلبها، تؤدي إلى الإطاحة بحكومة لم تعد تخدم مصالح باريس بالشكل المتوقع من الفرنسيين، بل أصبح العكس هو الصحيح. إذ شهدت مالي، على سبيل المثال، انقلابين متتالين خلال عامي 2020 و2021، تساهلت باريس مع الأول بينما سعت إلى إحباط الثاني، فالأول كان في صالحها أما الثاني فقد جاء مفاجئاً لها وعلى غير هواها.

الانقلابات.. عندما ينقلب السحر على الساحر

كانت الانقلابات ولا تزال سمة من سمات الحكم في قارة إفريقيا، التي شهدت أكثر من ثلث عدد الانقلابات حول العالم منذ عام 1950 حتى 2023. وشهدت مستعمرات فرنسا السابقة في القارة الجانب الأعظم من تلك الانقلابات.

يرجع الخبراء السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة في الدعم الفرنسي لرؤساء وحكومات لا يحظون بأي شعبية تقريباً بين شعوبهم، التي تعيش الفقر والجوع والمرض بينما تشرف تلك الحكومات على نقل خيرات البلاد إلى باريس.

وفي أغلب الأحيان كانت فرنسا نفسها تقف وراء الانقلابات كوسيلة لامتصاص الغضب الشعبي مؤقتاً. وفي هذا الإطار نشرت قناة الجزيرة فيلماً وثائقياً من 3 أجزاء عنوانه “The French African Connection“، يرصد أساليب فرنسا في إحكام قبضتها على مستعمراتها السابقة، خلال فترة ما بعد الاستعمار التقليدي، ويكشف عن عدد كبير من تلك الانقلابات والدعم المطلق للحكام المستبدين في تلك الدول.

ولم تكن هناك حدود أمام مصلحة فرنسا العليا في إفريقيا، حتى وإن اقتضى الحال تغيير رؤساء عبر الانقلابات والاغتيالات السياسية ودعم ديكتاتوريات وغض الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان.

وكانت أولى الضربات الملتوية في عهد فوكار بمثابة جريمة دولة، ففي نهاية عام 1960 جرى تسميم المعارض الكاميروني فيليكس مومييه في مطعم بجنيف. وفي يناير/كانون الثاني 1963، عمدت المخابرات الفرنسية إلى الانقلاب على سيلفانوس أولمبيو، رئيس توغو، لأنه تجرّأ وأصدر عملة توغو الوطنية.

وفي بداية 1964، أطاح الجيش الغابوني في انقلاب غير دموي بالرئيس ليون إمبا، وبعد يومين فقط قامت القوات الفرنسية بعملية إنزال في ليبرفيل وأعادت حليفها إلى الحكم.

وإذا أخذنا بعض النماذج الحديثة، فإن انقلاب غينيا في سبتمبر/أيلول 2021 يكشف جانباً مهماً في هذا السياق؛ إذ شهدت غينيا، إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، انقلاباً عسكرياً قام به العقيد مامادي دومبويا قائد القوات الخاصة، على الرئيس ألفا كوندي، الذي كان حليفاً لباريس. ورغم ذلك، فإن فرنسا لم تفرض عقوبات على غينيا ولم توقف “التعاون” الاقتصادي والأمني والعسكري حتى إعادة كوندي إلى منصبه.

وكان كوندي حليفاً لفرنسا ويحكم غينيا منذ سنوات ويحظى بدعم باريس الكامل، لكن خلال سعيه لفترة رئاسية ثالثة دخلت الصين على الخط وحدث تقارب بين بكين وكوندي، فغضبت منه فرنسا غضباً شديداً.

الأسباب الاقتصادية كانت سبب الغضب الفرنسي من كوندي، فالرجل فضل صداقة الصين على فرنسا، وكان يعتزم تسليم بكين رخص استغلال أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، بعد تنازل ملياردير فرنسي-إسرائيلي عن حقوقه فيه إثر فضيحة فساد.

لكن بالطبع كان الإعلام الفرنسي يركز على الجانب السياسي و”حماية الديمقراطية”، فشن هجوماً عنيفاً على كوندي بسبب ما أدخله من تعديلات دستورية ليبقى في السلطة، ووصف ما حدث في غينيا في 2020 بأنه “انقلاب دستوري”، خاصة بعد سقوط عشرات القتلى من المتظاهرين الرافضين لتعديل الدستور. انتهت القصة بانقلاب عسكري أطاح بكوندي.

والأمر نفسه حدث في مالي وإن بصورة أكثر فجاجة ووضوحاً؛ إذ شهدت مالي في أغسطس/آب 2020 انقلاباً أطاح بالرئيس أبو بكر كيتا، فتريثت باريس قبل إعلان موقفها منه ولم تحرك ساكناً عندما أعلن المجلس العسكري عن فترة انتقالية مدتها 3 سنوات للعودة إلى الحكم المدني وإجراء الانتخابات. اُختير باه نداو رئيساً انتقالياً ومختار وان رئيساً للحكومة وكلاهما حظي برضا باريس.

لكن في مايو/أيار 2021، وقع انقلاب آخر بقيادة العقيد آسيمي غويتا، فجن جنون فرنسا وأرغدت وأزبدت، لكن في النهاية أجبرت باريس على مغادرة مالي لتحل محلها روسيا، عن طريق مجموعة فاغنر الخاصة.

انقلاب النيجر.. القشة التي قصمت ظهر فرنسا

شهدت السنوات الثلاث الأخيرة ضربات متلاحقة للنفوذ الفرنسي في إفريقيا، من بوركينا فاسو إلى مالي، التي كانت رأس الحرب في التواجد العسكري الفرنسي في غرب القارة السمراء ومنطقة الساحل، وقبل ذلك كانت هناك جمهورية إفريقيا الوسطى أيضاً، لتجد فرنسا أن خريطة نفوذها التي كانت مترامية الأطراف تتحول شيئاً فشيئاً إلى نقاط صغيرة وغير مترابطة.

ثم جاء انقلاب النيجر أواخر يوليو/تموز 2023 ليكون بمثابة الضربة القاصمة لهذا النفوذ. فعلى الرغم من أن النيجر واحدة من أكثر دول العالم التي شهدت انقلابات في تاريخها المعاصر، إذ سجلت 4 انقلابات منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، فضلاً عن العديد من محاولات الانقلاب الفاشلة، إلا أن الأمر هذه المرة جاء بمثابة الصدمة المروعة لباريس.

فعندما فقدت فرنسا مالي وبوركينا فاسو، نقلت ما تبقى من قواتها إلى النيجر، التي كانت تتمتع باستقرار نسبي خلال العقد الأخير. كما تمثل النيجر شريان حياة فعلياً لفرنسا، التي تعتمد بشكل رئيسي على اليورانيوم رخيص الثمن لإنارة شوارعها، إضافة إلى خيرات متنوعة من ذهب ومعادن أخرى واحتياطي كبير من النفط، وكلها تحصل عليها فرنسا بأرخص الأثمان وأقل التكاليف.

وتفسر هذه المكاسب الضخمة حالة الصدمة التي تمر بها باريس، رغم الهدوء الظاهري، والإصرار على دحر الانقلاب وإعادة الرئيس محمد بازوم إلى منصبه بأي ثمن. وتستخدم فرنسا إحدى أدواتها وهي المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا (إيكواس)، التي اتخذت موقفاً عنيفاً وغير مسبوق، حيث هددت ولا تزال باستخدام القوة العسكرية لهزيمة الانقلاب.

لكن في جميع الأحوال، الواضح أن فرنسا قد فقدت النيجر أيضاً بلا رجعة. فحتى إذا ما نفذت إيكواس تهديداتها غير المسبوقة وشنت غزواً ناجحاً ضد قادة الانقلاب وأعادت الرئيس بازوم إلى السلطة، على الأرجح لن تستقر الأمور، أو على الأقل لن تستقر على هوى باريس، التي عبرت المظاهرات الضخمة عن فقدانها أي تعاطف شعبي في مستعمرتها السابقة.

لكن فرنسا لا تعبأ بالتعاطف أو الشعبية في تلك البلدان، وبالتالي فإنها ستواصل الدفع تجاه الحل العسكري في محاولة للتشبث بوجودها في النيجر، التي بات يمثل فقدانها خسارة اقتصادية ضخمة قد لا يتحملها المستعمر السابق.

وهذه النقطة تحديداً، أي عدم اهتمام فرنسا بالمساعدة في إرساء قواعد ديمقراطية حقيقية في مستعمراتها الإفريقية السابقة تمثل أحد أهم أسباب الانقلابات العسكرية المتعددة في تلك الدول، بحسب تحليل لشبكة DW الألمانية. فالأنظمة الاستبدادية والحكام المستبدون الذين يقمعون شعوبهم ويعيشون في بذخ وترف بينما تعاني شعوبهم من الجوع والفقر والمرض كانت دائماً خيار فرنسا المفضل.

انهيار الفرنك الإفريقي

تعكس الانقلابات العسكرية والتحول عن فرنسا نحو قوى عالمية أخرى، سواء كانت روسيا أو الصين أو غيرهما، اتجاهاً عاماً في مستعمرات فرنسا الإفريقية، ازدادت حدته في السنوات الأخيرة. لكن التخلص من القيود الاستعمارية المالية المتجسدة في الفرنك الإفريقي يعتبر المؤشر الأبرز على بداية النهاية الفعلية للنفوذ الفرنسي في تلك الدول.

وكان عام 2020 قد شهد تصديق البرلمان الفرنسي على مشروع قانون يطوي صفحة “الفرنك الإفريقي CFA”، وهي العملة المستخدمة في دول غرب ووسط إفريقيا والخاضعة للخزانة الفرنسية، وتغيير الاسم إلى “إيكو ECO”. لكن عملة “إيكو” لا تزال حبراً على ورق، وعلى الأرجح لن ترى النور قبل 2027 على الأقل، بحسب تصريحات رئيس مفوضية إيكواس، هذا إن رأت النور من الأساس.

صحيح أن عملية فك الارتباط المالي بين الدول الإفريقية وبين فرنسا لن يكون عملية سهلة أو بسيطة، لكن هذه العملية تبدو حتمية في ظل حالة العداء التي حلت محل النفوذ والتبعية في دول مثل مالي وبوركينا فاسو ومن قبلهما جمهورية إفريقيا الوسطى والآن النيجر. والدول التي تستخدم الفرنك الفرنسي هي: توغو والسنغال وساحل العاج والنيجر وبنين وبوركينا فاسو وغينيا الاستوائية ومالي، والسؤال الآن لم يعد هل، بل متى قد ينتهي الفرنك الفرنسي إلى غير رجعة وتتوقف المستعمرات الفرنسية عن استخدامه وتصدر عملتها الخاصة والمستقلة؟

ماكرون.. شاهد على النكسة الكبرى

ربما يكون من الأمور اللافتة للنظر أن يشهد الرئيس إيمانويل ماكرون تحديداً على أفول النفوذ الفرنسي في إفريقيا، فالرجل الذي فاز بجولة رئاسية ثانية لأول مرة منذ فترة طويلة، والذي دخول قصر الإليزيه عام 2017 كان يقدم نفسه كخليفة لشارل ديغول.

كان شارل ديغول مؤسس فرنسا الإمبراطورية في ثوبها الحديث، فهو من “منح” المستعمرات في إفريقيا ذلك الاستقلال الشكلي، وهو الذي غيّر أسلوب الاستعمار المباشر بأسلوب النفوذ المهيمن سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وغيّر مصطلح “المستعمرات الفرنسية في إفريقيا” إلى “المجتمعات الفرنسية في إفريقيا”، وأصبح هناك “ممثلون” عن تلك المجتمعات في البرلمان الفرنسي.

أسس ديغول الجمهورية الفرنسية الخامسة وأصبح رمزاً لفرنسا كقوى عظمى في العصر الحديث، وضمن لها مقعداً دائماً في مجلس الأمن الدولي، رغم أن ألمانيا النازية كانت قد احتلت فرنسا بالكامل ونصّبت فيها حكومة خاضعة لبرلين هي حكومة فيشي.

على أية حال، جاء الشاب الطموح ماكرون إلى رئاسة فرنسا عام 2017 مستحضراً صورة ديغول وساعياً إلى استعادة مكانة فرنسا كقوة عظمى فاعلة ومؤثرة. وبطبيعة الحال كان التأكيد على النفوذ الفرنسي في مستعمراتها السابقة، وبخاصة في إفريقيا. وبدأ ماكرون في استخدام لغة تصالحية دون أن يعتذر عن ماضي فرنسا الاستعماري؛ لأن ذلك قد يعني دفع تعويضات باهظة عن الفظائع التي ارتكبتها باريس على مدى قرون.

وخلال عام 2017، كانت خريطة النفوذ الفرنسي في إفريقيا تكاد تكون كاملة، رغم محاولات الفكاك من ذلك النفوذ. لكن خلال السنوات الست التي قضاها ماكرون في قصر الإليزيه، أصبح شاهداً على عكس ما كان يطمح إليه، حيث تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا حد التقلص.

وبعد أن كانت فرنسا تتمتع بحضور اقتصادي وتجاري قوي في القارة السمراء، حيث تنشط أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة وحوالي 2100 شركة كبيرة، وكانت فرنسا هي ثالث مستثمر في القارة بعد بريطانيا والولايات المتحدة، اختلف الموقف بشكل جذري تقريباً.

فقد تراجعت مكانة فرنسا بشكل لافت بسبب دخول شركاء غير غربيين على الخط؛ إذ باتت الصين أكبر شريك اقتصادي للدول الإفريقية، كما أصبحت تركيا شريكاً منافساً في أسواق كانت تتمتع فيها فرنسا بنفوذ تقليدي؛ مثل الجزائر وليبيا والسنغال.

ولا تقتصر معضلة فرنسا في فقدان مكانتها في المنطقة المغاربية، كشريك أول للمغرب لصالح إسبانيا، ولصالح الصين في الجزائر، بل مثلاً في تحول حليفها التقليدي المغرب إلى منافس لها في منطقة غرب إفريقيا.

ولا يمكن بالطبع تجاهل التهديد الأكبر للحضور الاقتصادي الفرنسي، والمتمثل في تنامي نزعات التمرد على النفوذ الفرنسي داخل تكتلي “المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا” و”المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا” واللتين تستخدمان “الفرنك الإفريقي” كعملة مرتبطة بالسوق المالية الفرنسية.

ويقدر خبراء اقتصاديون أن دول هذه المجموعة تدفع نسبة تفوق 50% من احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية، لكن باعتمادها على عملتها الخاصة “الإيكو” سيتجسد فكّ الارتباط المالي بين “المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا” وفرنسا بحلول سنة 2027.

كما أن نفوذ فرنسا الثقافي وخبرتها التاريخية في إفريقيا بدآ يتقلصان؛ إذ تفيد دراسات وإحصاءات بأن استخدام اللغة الفرنسية يشهد تراجعاً في مجالات تقليدية، مثل التعليم والإعلام وأوساط الأعمال. ويثير هذا المؤشر قلقاً كبيراً لدى صانعي السياسة الثقافية الفرنسية، لاسيما وأن تراجع استخدام اللغة الفرنسية يبرز لدى الفئات الشابة في الدول الفرنكفونية، وهي الفئات الأكثر حضوراً في وسائل التواصل الحديثة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي، بحسب تحليل لشبكة DW الألمانية.

هل انتهت قصة فرنسا الإفريقية؟

رغم الانتكاسات المتتالية التي بدأت فرنسا تتلقاها خلال عهد ماكرون، إلا أن السياسي الذي لا يتوقف عن إطلاق “المبادرات” قرر إطلاق ما سماها “استراتيجية فرنسا الجديدة تجاه إفريقيا”، حيث عقد تجمعات بحضور سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين أفارقة لإطلاقها.

وقام الرئيس الفرنسي بجولة مطلع مارس/آذار 2023 أخذته إلى الكونغو الديمقراطية والغابون وأنغولا وجمهورية الكونغو، وهي الزيارة الأولى له إلى تلك الدول، وكان قد استبقها بالإعلان عن تخفيض أعداد القوات الفرنسية في القارة السمراء ضمن الاستراتيجية الجديدة التي ستتبعها باريس خلال السنوات الأربع المقبلة تجاه مستعمراتها السابقة.

إذ سعى الرئيس الفرنسي إلى مشاركة رؤيته التي يصفها بأنها “شراكة متجددة مع إفريقيا” تقف فيها القارة مع فرنسا على قدم المساواة، مستهدفاً تبديد صورة فرنسا كقوة استعمارية سابقة متعجرفة، دون أن ينفي في الوقت نفسه سعي بلاده للتمتع بنفوذ في القارة في المستقبل.

لكن ماكرون وجد الاحتجاجات الغاضبة في انتظاره، في مؤشر واضح على تزايد المشاعر المُعادية لفرنسا في أنحاء القارة الإفريقية. كما شهد المؤتمر الصحفي المشترك بين رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية تشيسيكيدي وماكرون “مشادة كلامية” أثارت تفاعلاً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي؛ حيث انتقد الرئيس الكونغولي مواقف رسمية فرنسية اعتبرها تدخلاً في شؤون بلاده، وجاء رد الرئيس الفرنسي مرتبكاً وغير متماسك بشكل واضح.

تساءل تشيسيكيدي خلال المؤتمر قائلاً: “لماذا تختلف رؤية الأشياء حين يتعلق الأمر بإفريقيا، لماذا لا تتحدثون عن تسوية أمريكية مثلاً حينما تكون هناك مخالفات في الانتخابات الأمريكية، أو تسوية فرنسية حين تحدث مخالفات في الانتخابات الفرنسية، خصوصاً زمن شيراك؟”.

حديث الرئيس المضيف كان إشارة لتصريح لوزير الخارجية الفرنسي السابق، جان إيف لودريان، في عام 2019، قال فيه إن نتائج انتخابات الرئاسة في الكونغو الديمقراطية كانت نتيجة ترتيب مسبق، بين الرئيس المنتهية ولايته جوزيف كابيلا، وفيليكس أنطوان تشيسيكيدي، ولا علاقة لهيئة الانتخابات في البلاد بذلك.

فيما ساد جوّ من التوتر خلال المؤتمر الصحفي، حيث مد تشيسيكيدي أصابعه نحو الرئيس الفرنسي قائلاً: “هذا أيضاً يجب أن يتغير في طريقة التعاون بين فرنسا وأوروبا عامة والكونغو الديمقراطية.. انظروا إلينا بطريقة أخرى، باحترام كشريك حقيقي، وليس بنظرة أبوية وإملاءات”.

جاء رد ماكرون مرتبكاً وغير متماسك، حيث تحدث عن وجود صحافة حرة في فرنسا من حقها أن تقول ما تشاء، ليرد عليه مضيفه بحدة مشيراً إلى أنه يقصد “وزير خارجية بلادك وليس صحفيا”!

يعكس هذا الموقف تحولاً لا يمكن إنكاره في طبيعة علاقة الدول الإفريقية الفرانكوفونية بفرنسا، والموقف هنا لم يحدث في مالي أو بوركينا فاسو حيث أصبحت باريس “عدواً”، بل في الكونغو حيث يعتقد ماكرون أن الأمور ربما لا تزال دون تغيير.

وفي مستهل جولته الإفريقية هذه، أعلن ماكرون رسمياً موت “فرنسا الإفريقية”، مضيفاً أن فرنسا أصبحت الآن “محاوراً محايداً” في القارة السمراء.  وقال: “انتهى عصر فرنسا الإفريقية هذا وأحياناً يتكون لديّ شعور بأن الذهنيات لا تتطور بوتيرة تطورنا. عندما أقرأ وأسمع وأرى أنه ما زالت تُنسب لفرنسا نوايا ليست لديها ولم تعد لديها.. يبدو أيضاً أنه ما زال مُتوقعاً منها (أن تتخذ) مواقف ترفض اتخاذها وأنا أؤيد ذلك تماماً. في الغابون كما في أي مكان آخر، فرنسا محاور محايد يتحدث إلى الجميع ولا يتمثل دوره في التدخل في النزاعات السياسية الداخلية”.

وقبل الجولة، قدم ماكرون في قصر الإليزيه بباريس عرضاً رسم فيه معالم استراتيجية فرنسية جديدة في إفريقيا. وأوضح أن ما يسمى المربع الخلفي الفرنسي في غرب إفريقيا انتهى، ودعا إلى شراكات جديدة في القارة بعيداً عن العلاقات المبهمة وعن دعم القادة الحاليين.

وبشأن وضع القوات الفرنسية في إفريقيا أكد ماكرون أن الأمر ليس “انسحاباً ولا فك ارتباط.. إنها ليست مسألة انسحاب أو فك ارتباط بل هي عملية تكييف” عبر إعادة تحديد “احتياجات” الدول الشريكة وتقديم “مزيد من التعاون والتدريب”.

لكن تقريراً لصحيفة “نويه تسوريشر تسايتونغ” السويسرية نشر تحليلاً، جاء فيه: “في جولته الإفريقية، دعا الرئيس الفرنسي إلى نهاية ما يسمى “فرانس أفريك” (وهو توصيف للعلاقة التي نشأت بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية السابقة)، غير أن ذلك بدا كوعد غامض يفتقد للموثوقية والمصداقية، وربما تكون هذه الخطوة قد جاءت بعد فوات الأوان.. ويكاد ماكرون يكون ضيفاً دائماً في إفريقيا التي يزورها للمرة الثامنة عشرة على التوالي منذ توليه منصبه في عام 2017. ومع ذلك، فإن جولته الأخيرة التي قادته إلى الغابون وأنغولا والكونغو، تختلف عن سابقاتها، وسعى من خلالها لتأسيس فصل جديد (للعلاقة مع القارة السمراء)”.

فقد اضطر الجيش الفرنسي للانسحاب على التوالي من مالي ثم بوركينا فاسو بعد انقلابين عسكريين في البلدين. وتقول باريس إن روسيا تستخدم عمليات تضليل إعلامي واسع لتغذية الشعور المعادي لفرنسا كقوة استعمارية سابقة، في منطقة باتت تشهد منافسة حامية الوطيس بفعل بروز قوى صاعدة جديدة.

هل تتوقف “الذبابة” عن مصّ خيرات إفريقيا؟

“فرنسا هي ذبابة أخرى تمتص إفريقيا”، كان هذا التصريح لنائب رئيس وزراء إيطاليا الأسبق، لويجي دي مايو عام 2019، تعبيراً عن استمرار النفوذ الفرنسي “الخانق” على مستعمراتها السابقة في إفريقيا.

دي مايو، الذي ينتمي إلى تيار اليمين المتطرف، لم يطلق تصريحاته المنتقدة لفرنسا حباً في الشعوب الإفريقية أو دفاعاً عنها، لكن ذلك جاء في سياق “الحرب على الهجرة” إلى الاتحاد الأوروبي، والتي شنتها ولا تزال أحزاب اليمين المتطرف.

والقصة هنا هي أن المسؤول الإيطالي اعتبر أن السياسات الاستعمارية الفرنسية، والتي استمرت عبر عملة الفرنك الفرنسي، كانت سبباً مباشراً في إفقار الدول الإفريقية ودفع شعوبها إلى الهروب واللجوء إلى أوروبا طلباً لمعيشة أفضل.

وقال دي مايو، الذي أعلن أن فرنسا تتحمّل مسؤولية رئيسية في موجات الهجرة من إفريقيا: “إذا وُجد أناس يهربون (من بلدانهم)، فهذا يعود لكون بعض البلدان الأوروبية -لاسيما فرنسا- لم تكف أبداً عن استعمار إفريقيا”.

لكن بغضّ النظر عن دوافع دي مايو، فقد أصاب كبد الحقيقة، إذ ظلت فرنسا تستفيد حتى اليوم من النظام النقدي للفرنك الإفريقي. ويعتمد هذا النظام على اتفاقيات تجارة تم التوقيع عليها مقابل استقلالية البلدان الإفريقية.

وضمنت فرنسا لنفسها من خلال تلك الاتفاقيات القديمة منفذاً تفضيلياً لموارد المستعمرات السابقة، كما ضمنت من خلال الشراكة سوقاً لمنتجاتها ومنفذاً لمواد أولية رخيصة إضافة إلى التأثير السياسي والعسكري. وبالنسبة إلى الأفارقة تعني العملة النقدية أسعار فوائد مرتفعة، وبالتالي كميات كبيرة من الديون وعقبات تجارية ونمو اقتصادي ضعيف.

الخلاصة هنا هي أن فرنسا لا تريد أن تتوقف عن “مصّ” خيرات مستعمراتها السابقة ولن تفعل ذلك طواعية أبداً، فهل بدأت رحلة النهاية للإنهاء القسري لهذا النفوذ الضار بالشعوب الإفريقية؟ الإجابة ربما تتوقف كثيراً على ما قد ينتهي إليه الانقلاب في النيجر تحديداً!

نُشر بواسطة رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version