وكالات – مركز رؤية نيوز للدرسات والتحليلات
بالرغم من التميز في موقعها الاستراتيجي ومواردها الاقتصادية الهائلة، لا تزال منطقة القرن الإفريقي مرادفاً لانعدام الاستقرار والأمن خلال العقود الماضية، حيث تمتاز دول المنطقة بتنوع إثني وعرقي واسع، وغالباً ما يكون هذا التركيب حاضراً عند أي محاولة لتفسير أسباب اندلاع النزاعات والحروب.
فشهدت المنطقة صراعات عديدة، بما في ذلك الحرب الأهلية الصومالية، وحرب الاستقلال الإرترية، وحرب جنوب السودان، والنزاعات المتقطعة بين إريتريا وإثيوبيا، والاضطرابات الداخلية المستمرة في السودان وإثيوبيا.
وتبقى إريتريا هي البلد الوحيد في المنطقة الذي لم يشهد حرباً أهلية داخلية، بسبب القبضة الحديدية لديكتاتورها، الرئيس أسياس أفورقي، ومع ذلك، لا يمكن أن يستمر عهده إلى الأبد خصيصاً في ظل عدوى الانقلابات المنتشرة بالقارة، وفي هذه المنطقة، تُعَد أزمة خلافة الحكم التي تتحول إلى حرب أهلية هي القاعدة وليست الاستثناء.
القرن الإفريقي منطقة جاذبة لانعدام الأمن
وتقول مجلة The National Interest الأمريكية إن منطقة القرن الإفريقي برزت كنقطة جذب لانعدام الأمن، إذ يعاني السودان وإثيوبيا حالياً من اضطرابات أهلية كبيرة. ويواجه الصومال أيضاً فاعلين من غير الدول وغياب للسلطة المركزية، في حين يبقى جنوب السودان متماسكاً بفضل اتفاق سلام هشّ. وللمفاجأة، فإن أكثر البلدان استقراراً في المنطقة هي إريتريا، وهي ديكتاتورية ماركسية صارمة يُطلَق عليها اسم “كوريا الشمالية الإفريقية”.
وتقع منطقة القرن الإفريقي خلال الوقت الحالي على مفترق طرق، ويهدد احتمال نشوب نزاعات داخلية عرقية وسياسية وعسكرية طويلة في إثيوبيا، التي يبلغ تعداد سكانها 123 مليوناً، وفي السودان، الذي يبلغ تعداد سكانه 46 مليوناً، بإغراق المنطقة في حالة دائمة من عدم الاستقرار.
في وقت لا يتحمَّل القرن الإفريقي فشل دولة أخرى مثل الصومال، وفكرة انضمام السودان أو إثيوبيا إلى صفوف الدول الفاشلة في شرق إفريقيا يمكن أن تُغرِق المنطقة في مستنقع دائم من الاضطرابات العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
فرص ضئيلة في السودان لتحقيق السلام
ومع الأسف تبدو احتمالية التوصل إلى تسوية تفاوضية لوقف إطلاق النار بين قائد الجيش عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع حميدتي، وإيجاد مسار نحو مفاوضات السلام في السودان ضئيلة، إذ أصبح الصراع بين الفاعلين الرئيسيين، معادلة صفرية.
ويتعين أن يحكم أسد نوبي مهيمن واحد الخرطوم بقبضة حديدية، الأمر الذي يؤدي إلى إرجاع الأجندات السياسية المثالية إلى الخلف.
وإذا ما استمر الصراع، قد يشبه مسار الصراع المسار الليبي، بما يؤدي إلى انضمام البلاد إلى صفوف الدول الإفريقية المنهارة، مثل الصومال وليبيا وتشاد والكونغو، كما تقول المجلة الأمريكي.
وتُعَد الانقلابات العسكرية في السودان مألوفة بقدر ألفة الانتخابات في الغرب كما يقول دانيال هيلي، الكاتب الأمريكي المتخصص في الشؤون الجيوسياسية لشرق إفريقيا، فقد شهدت البلاد عدداً مذهلاً من الانقلابات العسكرية بلغ 35 انقلاباً منذ نيل الاستقلال عام 1956.
وحافظ أنجح الديكتاتوريين السودانيين، عمر البشير، على قبضته على السلطة لقرابة ثلاثة عقود، منذ عام 1989 حتى عام 2019، حيث تلاعب البشير بالمشهد السياسي من خلال استيعاب الأجهزة الأمنية، والقمع والاستغلال الاستراتيجي لمؤسستين متعارضتين هما القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والتي أُسست في عام 2013، وتعتبر تطويرًا لميليشيات الجنجويد، بهدف التعامل مع سكان إقليم دارفور بالقوة وإخضاعهم، وهو ما أبرز حميدتي باعتباره القائد الفعلي لأقوى قوة شبه عسكرية في السودان.
ويقول هيلي لمجلة National Interest إن البشير صمم قوات الدعم السريع لتكون درعاً في مواجهة التهديدات المحتملة من القوات المسلحة، مع ذلك، تعاونت قوات الدعم السريع مع الجيش ودبَّرا انقلاباً في عام 2019، ليس للإطاحة بنظام البشير أو إرساء الاستقرار في المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي المتزعزع في السودان، بل لسحق الحركة الديمقراطية الوليدة والقضاء على النشاط السياسي غير العنيف الذي كان يكتسب زخماً منذ عام 2013.
وتختلف الحرب الأهلية في السودان كثيراً عن النزاعات الأهلية الإفريقية الأخرى بسبب حجم الجيش السوداني، الذي يملك 200 ألف عسكري. يواجه هؤلاء قوات الدعم السريع، التي تضم ما بين 70 ألفاً و150 ألف شخص.
وقوات الدعم السريع ليست فقط قوة شبه عسكرية، بل تمثل أيضاً تجارة غير مشروعة مربحة للغاية في ظل تمددها الاقتصادي في قطاعات مثل البنوك، وخدمات الارتزاق، والتعدين (لاسيما تهريب الذهب)، والإعلام، والتجارة غير الشرعية عبر الحدود، وإثراء حميدتي وأتباعه.
وفي الوقت نفسه، يسيطر الجيش السوداني على أكثر من 200 مؤسسة تجارية، بما في ذلك في مجال الزراعة، والتنقيب عن الذهب، وإنتاج المطاط، وتربية الماشية، ومن ثم، فإن هذين الفاعلين المتحاربين منخرطان في منافسة على الموارد.
ومع استمرار تفاقم الأزمة في السودان، فإن النتيجة الأرجح هي صراع مطول بين الفصيلين. ويؤدي غياب فاعل مهيمن في كلٍ من البنية العسكرية والسياسية، وكذلك غياب احتكار القوة، إلى وجود نافذة فرصة للفاعلين الأجانب والفاعلين من غير الدول لممارسة قوتهم، ما يدفع السودان في اتجاه الصومال وليبيا.
مستقبل إثيوبيا الغامض
يبدو أن الصراع العرقي والإقليمي في إثيوبيا، والذي يضم نظام رئيس الوزراء آبي أحمد، وجبهة تحرير شعب تيغراي، ومجموعات الأورومو والأمهرة العرقية، قد وجد حلاً على الورق من خلال التوقيع على “اتفاق نيروبي” الهشّ جداً في 12 نوفمبر 2022. مع ذلك، فشل الحل في إحلال الاستقرار المطلوب بشدة.
ويُنذِر الصراع العرقي والإقليمي المستمر بين الأمهريين والأوروميين والتيغرانيين، جنباً إلى جنب مع عودة حركة الشباب الإسلامية المسلحة إلى الصعود وتحركات مصر غير المؤكدة بخصوص سد النهضة الإثيوبي العظيم، بمزيد من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في إثيوبيا.
عزَّز آبي أحمد سلطته منذ وصوله إلى السلطة في 2018 عقب استقالة سلفه، هايلي مريام ديسالين، وفي حين نجح في منع بلقنة إثيوبيا من خلال وقف الأعمال العدائية مع جبهة تحرير شعب تيغراي، فإن الكراهية العرقية لا تزال تغلي على نار هادئة. ويفاقم فشل مفاوضات السلام بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير أورومو هذا التهديد، خصوصاً بالنظر إلى الحجم الكبير للسكان الأورومو، الذين يُشكِّلون 36% من سكان إثيوبيا. في الوقت نفسه، تعاني إدارة آبي أحمد مع ميليشيات أمهرة المعروفة باسم “فانو”. ويمثِّل الأمهريون ثاني أكبر مجموعة عرقية في إثيوبيا، ويُشكِّلون 24.1% من السكان.
ويعاني الصومال دون حكومة مركزية منذ قرابة ثلاثة عقود، وتشن حركة الشباب تمرداً مثيراً للقلق. ويُشكِّل هذا مصدر قلق كبير لكلٍ من إثيوبيا والصومال، لأنَّهما يتشاركان حدوداً بطول 1024 ميل (1648 كم تقريباً). وستنسحب “البعثة الإفريقية الانتقالية في الصومال” من البلاد بحلول 31 ديسمبر 2024. ويتفاقم الوضع غير المستقر في إثيوبيا أكثر بسبب قربها من ثلاث بلدان في حالات متنوعة من عدم الاستقرار: السودان، والصومال، وجنوب السودان.
وتتشارك إثيوبيا حدوداً مع كل هذه البلدان الثلاثة، وإذا ما تحوَّلت إلى دول فاشلة، فإنَّ استقرار المنطقة سيكون في خطر كبير.
يُزيد من هذه التحديات إمكانية شن عمليات عسكرية مصرية إذا ما تدهور استقرار إثيوبيا أكثر، فقد تستغل مصر فرصة كهذه، خصوصاً بعدما أعلنت إثيوبيا ملأها لخزان سد النهضة الإثيوبي العظيم، كما تقول مجلة National Interest الأمريكية.
لطالما أظهرت إثيوبيا صورة للوحدة تتسم بعلم واحد ولغة واحدة وشعب واحد، لكن تحت هذه القشرة يوجد بلد شابته تاريخياً انقسامات على أسس عرقية ودينية ولغوية. وإذا ما تُرِكَت هذه التصدعات العالقة دون معالجة، فإنَّها يمكن أن تمزق البلاد من الداخل.
مخاطر مُحيطة باستقرار القرن الإفريقي
يترنَّح القرن الإفريقي على شفا حالة طويلة من عدم الاستقرار، وإذا ما استسلم السودان وإثيوبيا لهذا المصير، ستواجه المنطقة أفقاً قاتماً يتمثَّل في عقود من عدم الاستقرار.
وينطوي الانهيار المحتمل لهذين البلدين، اللذين يضمان معاً سكاناً يزيد عددهم عن أكثر من 170 مليوناً، على تداعيات عميقة على الممر الاقتصادي الدولي بطول البحر الأحمر، بما يؤثر على الشرق الأوسط وأوروبا ويزيد من حدة أزمات الهجرة في شرق وشمال إفريقيا، ومن بين البلدان الثمانية التي تُشكِّل شرق إفريقيا؛ جيبوتي، وإرتريا، وإثيوبيا، وكينيا، والصومال، وجنوب السودان، والسودان، وأوغندا، فيما تعتبر كينيا وحدها من تمثل كياناً ديمقراطياً ومستقراً نسبياً.