بقلم: هشام المغربي

لم أكن أعرفه أو سمعت عنه من قبل، فهو يعيش في قارة تبعد عنا آلاف الأميال، أستاذًا جامعياً ومفكراً مرموقاً، هكذا حدثني عنه صديقي الأستاذ أحمد محارم في مساء أحد أيام شتاء العام الماضي، هاتفني من نيويورك قائلاً أريد أن أعرفك على شخص يبلغ من العمر الآن خمسة وتسعون عاماً، حاضر الذهن، قوي الذاكرة إلى درجة سَتُذهلك، يحفظ أسماء من تعامل معهم أو عرفهم من عشرات السنين عن ظهر قلب، هاجر إلى الولايات المتحدة في عمر الشباب، وتزوج من سيدة أمريكية واستقر به المقام هنا بعد أن تقلد مناصب عدة في الجامعات الأمريكية المختلفة وفي الأمم المتحدة أيضاً هو الدكتور يس العيوطي عميد الجالية المصرية في نيويورك.

ثم أردف قائلاً: والحقيقة سبب إتصالي بك اليوم هو أنه سألني عن كتاب هام يريده من مصر هو كتاب بعنوان “المنتخب من أدب العرب” ذكرت له أن أفضل من يفيدك في هذا المقام صديقي هشام المغربي حيث يعمل في مجال النشر والكتب منذ سنوات طويلة وحتماً سيفيدك أكثر مني.

وقد أعطيته رقم هاتفك، توقع إتصالاً منه إن لم يكن اليوم فربما غداً.

وبعد دقائق من هذه المكالمة وجدت رقماً دولياً على شاشة هاتفي وعرفت أنه هو المتصل، لفتني أن استهل حديثه معي بتعريف نفسه بلا ألقاب حيث قال معك يس العيوطي من نيويورك!

هذا الأستاذ الجامعي الكبير والسياسي المرموق يُعَرِف نفسه هكذا!

فقلت في نفسي هذا تواضع العلماء فهذه سمتهم دائماً.

رحبت به وأبديت استعداداً لمساعدته.

استرسل في الحديث معي عن ذكرياته في مصر موضحاً:

أنا ابن قرية القنايات بالشرقية قبل أن أكون مواطن أمريكي ورغم كل هذه السنوات هنا في نيويورك وغيرها من ولايات  عديدة، أشعر بداخلي أنني لم أغادر الشرقية بعد ولازلت أفضل الحديث بلهجتي الريفية المحببة إلى قلبي نحن أهل الريف نعشق بلدتنا التي ولدنا بها مهما طالت بنا الغربة.

تحدث معي حديثاً من القلب وكأنه يعرفني منذ سنوات طويلة حتى أن المكالمة الدولية التي أجراها استغرقت قرابة الساعة!

أما عن الكتاب موضوع السؤال فهو واحد من أهم كتب المكتبة العربية على الإطلاق، جمعه وشرحه كلا من الأساتذة الدكتور طه حسين، الأستاذ أحمد السكندري، والأستاذ أحمد أمين، والأستاذ علي الجارم، والأستاذ عبد العزيز البشري، والدكتور أحمد ضيف.

ولعل هذه النخبة من السادة الأدباء والمفكرين دليلاً هاماً على قيمة هذا الكتاب النادر طُبعت طَبعته الأولى عام 1954 ثم قامت هيئة الكتاب بإعادة طبعة في بداية الثمانينات من القرن الماضي.

وعدته أن أحاول البحث عنه وإرساله له كما طلب!

تركت تلك المحادثة الهاتفية في نفسي الكثير من التساؤلات عن قدرة العقل البشري على التوهج والتفاعل مهما كان العمر!

بعد عدة شهور ربما في مستهل هذا العام 2023 تحدث معي صديقي أحمد محارم قائلاً صديقنا الدكتور العيوطي لديه كتاب كتبه بخط اليد ويريد أن يطبعه في مصر وأن تتولى ذلك بنفسك إذا لم يكن لديك مانع.

رحبت بذلك وقد أرسل لي نسخة بالبريد الاليكتروني قمت بطباعتها أولاً لتفحصها، وكانت المفاجأة أن النسخة هي مسودات لكتابات مختلفة مع الكتاب موضوع النشر وبها الكثير من الكشط والتصحيح والتنقيح والمذكرات الهامشية التي ليس لها علاقة بالكتاب وأرقام تليفونات بعض أصدقائه ومعارفه كتبها بخط يده على هوامش الصفحات!

قلت لصديقي أحمد محارم لن أستطيع تقديمها لأي دار طباعة وهي على هذا النحو لابد من إعادة كتابتها بشكل يسهل معه نشرها وقد كان أن أرسلت الكتاب إلى أحد المختصين الذي عكف على إعادة كتابته وأرسله لي بعد ذلك فوجدت أن الكتاب بحاجة إلى مراجعة لغوية ومعلوماتية حيث من قام بإعادة كتابته ليس من العلم والمعرفة والثقافة الكافية التي تمكنه من استنتاج المعلومة الصحيحة من بين حروف خط يد الدكتور العيوطي.

والحقيقة أنني قمت بذلك بنفسي بعد أن قمت بالإتصال بالدكتور العيوطي عدة مرات لاستيضاح معنى أو تاريخ أو مصطلح وهكذا

الكتاب بعنوان “أوجه النقص في الديمقراطية الأمريكية” وقد سعدت جداً بقراءة هذا الكتاب والاستفادة من كم المعلومات التي دونها الدكتور العيوطي به فضلاً عن تحليله الدقيق للكثير من التناقضات في المجتمع الأمريكي بداية من المحكمة الأمريكية العليا مروراً بالمجمع الإنتخابي والطريقة غير العادلة في حساب أصوات الناخبين والتي أدت إلى وصول ترامب للحكم والإطاحة بهيلاري كلينتون صاحبة الأصوات الأكثر بفارق كبير عن منافسها ترامب، وإنقلاب ترامب على الشرعية، والصراع العنصري الذي لايزال موجودا بصور مختلفة، وإيضاح العوار في نظام الحكم الأمريكي.

و تطرق أيضاً إلى إنكشارية المهجر وجذور العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية والإنفصامية في الشخصية الأمريكية وغير ذلك من جوانب النقص في السياسة الداخلية الأمريكية.

أعددت الكتاب للنشر وقمت بإرسال نسخة إليكترونية منه إلى الدكتور العيوطي لمراجعتها المراجعة النهائية قبل النشر الورقي.

وسعد بها كثيراً وقام بالإتصال بي شاكراً هذا الجهد في إعداد الكتاب على أن ينتهي من مراجعته ويعطيني موافقته على الطبع الورقي فور انتهائه منه.

ومرت عدة شهور بعد ذلك وكانت صدمة كبيرة أن أبلغني صديقنا محارم أن الدكتور العيوطي قد وافته المنية رحمه الله في نيويورك.

ولايسعني إلا أن أطلب له الرحمة والمغفرة وأن يجعل ما قدمه من علم ومعرفة في ميزان حسناته وأن يتقبل الله عمله الصالح مع أبناء الجالية العربية والإسلامية في المهجر عبر سنوات طويلة من العمل الجامعي أو عبر منابر المساجد في نيويورك .

كانت حياته حافلة بالأحداث والمواقف التي ربما يشتمل على بعض منها هذا الكتاب الذي يعده الآن صديقنا أحمد محارم والتي تعد هذه المقالة صفحة من صفحات من عاصروه وعاشوا معه أوتحدث إليهم من أبناء الجالية المصرية أو الجاليات العربية الأخرى.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version