دخلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الرابع ولم يتم تحرير الرهائن أو القضاء على حركة حماس. فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة وقدرة حماس على  الاستمرار في إلحاق الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي أثار الشكوك حول قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق أهداف حكومة نتانياهو المعلنة والتساؤلات حول نجاعة الخيار العسكري في التعامل مع تداعيات هجمات حماس في السابع من أكتوبر2023.

 

ويبقى التفاوض هو خيار إسرائيل الوحيد الذي يمكن أن يأتي بنتائج رغم مرارته. القبول بالتفاوض يعني الاعتراف بفشل الخيار العسكري رغم فداحته ويعني الاعتراف بأن حماس مازالت تـملك بزمام المبادرة وقادرة على البقاء و المناورة وأن هدف إسرائيل المعلن للقضاء على حركة حماس هو أمنية أكثر منه هدفا يمكن تحقيقه رغم الغطرسة العسكرية الإسرائيلية.

 

إن استمرار الحرب دون تحقيق أهدافها يؤكد أن حركة حماس قد استعدت جيدا لسيناريو القوة الإسرائيلية الغاشمة وأن الحركة ما زالت تملك زمام المبادرة وقادرة على المناورة وإحباط كل الجهود الإسرائيلية لتحقيق نصر عسكري أو سياسي حتى لو كان نصرا زائفا بغرض تسويقه داخليا للشعب الإسرائيلي وحفظ ماء وجه الحكومة التي تبدو غير فاعلة أكثر منها قادرة على الإيفاء بوعودها. رغم الدمار الهائل الذي أحدثته الآلة العسكرية الاسرائيلية في قطاع غزة والخسائر البشرية غير المسبوقة في صفوف الفلسطينيين والتي تقترب من %3 من مجموع سكان القطاع، إلا أن الحرب قد وصلت الى طريق مسدود ويبقى التفاوض هو الخيار الوحيد أمام الحكومة الإسرائيلية. ولتحقيق مكاسب من خلال التفاوض لابد من وسائل ضغط تجبر حركة حماس على تقديم تنازلات تستطيع الحكومة الإسرائيلية تسويقها داخليا على أنها انتصار لحفظ ماء وجهها.

 

قدرة الآلة العسكرية الإسرائيلية على الضغط وإحداث تأثير يدعم المفاوض الإسرائيلي تضعف يوما بعد يوم بعد أن أثبتت حركة حماس قدرتها على التأقلم مع الواقع الجديد على الأرض وبعد أن تعرضت إسرائيل لانتقادات دولية شديدة وصلت الى حد قيام حكومة جنوب أفريقيا برفع دعوة أمام محكمة العدل الدولية تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني في غزة، ومن هنا كان لابد من اللجوء الى وسائل ضغط أخرى مثل وسيلة العقوبات الاقتصادية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة كثيراً لإرغام دول بعينها على الرضوخ لمطالبها. إسرائيل لجأت الى الخيار الاقتصادي منذ بداية حربها على غزة من خلال قطع إمدادات الماء والغذاء والكهرباء والدواء والتحويلات المالية وإحكام السيطرة على كل منافذ القطاع والمماطلة والتسويف لإدخال المساعدات الغذائية، ومع دخول المفاوضات مع حركة حماس مرحلة جدية تعتمد إسرائيل على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لممارسة مزيد من الضغط الاقتصادي على الفلسطينيين لإجبار الحركة على الرضوخ للمطالب الإسرائيلية. قامت الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية المتحالفة مع إسرائيل بوقف المخصصات المالية لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا). تسهم الولايات المتحدة بما يزيد عن 300 مليون دولار في دعم وكالة الأونروا التي تعتبر الشريان الوحيد الذي ما زال يعمل بالقطاع على توفير الحد الأدنى من احتياجات الإعاشة اليومية لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة. تم حجب المخصصات المالية لوكالة الأونروا بناء على ادعاءات إسرائيلية لم يتم التحقيق فيها بعد بأن هناك 12 عاملا لدى الوكالة شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر على إسرائيل مما يتنافى مع مبدأ حيادية منظمات الأمم المتحدة، علما أن الوكالة يعمل لديها أكثر من 13,000 عامل في قطاع غزة فقط. حتى لو سلمنا جدلاً بأن بضعة أشخاص من العاملين لدى الوكالة قد شاركوا في هجمات السابع من أكتوبر، فإن حجب المخصصات المالية عن الأونروا هو عقاب جماعي لأكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة واللاجئين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والأردن.

 

في الفصل السادس من كتابه “استراتيجية العلاقات الدولية” Foreign Affairs Strategy، يؤكد البروفيسور تاري دايبل على أن وسيلة التفاوض هي أقوى الوسائل وأضعفها في نفس الوقت، ضعيفة لأنها تحتاج الى دعم العوامل الأخرى مثل “العقوبات الاقتصادية والانتقام التجاري والمساعدة الخارجية أو استخدام القوة” وأن هذه الوسائل المساعدة يجب أن تكون بالقرب من أو على طاولة المفاوضات. كما أن المفاوضات هي أقوى الوسائل لأنها تعتمد على عملية الإقناع الحقيقي، ولكن طبقا لما يذكره دايبل في كتابه فإن “الإكراه” وليس “الإقناع” هو الهدف من التفاوض وأن المفاوض لن يستطيع ان يتجنب “عدم الأمانة” و”الخداع” لأنها مهمة لعملية التفاوض كما أن السرية والمفاجأة هي عناصر مهمة في حالة الحرب. ما ذكره دايبل نظَّر له العديد من خبراء العلاقات الدولية الأمريكان من استخدام العقوبات الاقتصادية والعلاقات التجارية والمساعدات المادية والعينية كوسيلة لإكراه الدول والمنظمات والشركات والأفراد على الانصياع للأهداف السياسية المطلوبة وأشهرهم ديفيد بولدين الذي قدم شرحا وافيا عن كيفية استخدام العقوبات الاقتصادية لتحقيق الأهداف السياسية خاصة عندما يصبح خيار الحرب غير مرغوب فيه وذلك في كتابه Economic Statecraft “فن استخدام الاقتصاد في العلاقات الدولية”.

 

وبالتالي فما نراه الآن من قيام الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بوقف المخصصات المالية لوكالة الأونروا في وقت الوكالة في أمس الحاجة الى الدعم المادي لتقديم العون للشعب الفلسطيني في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب ضروس وحصار مشدد يمكن فهمه في إطار ممارسة أقصى درجات الضغط الاقتصادي الممكنة لإجبار حركة حماس على الانصياع للمطالب الإسرائيلية خلال عملية التفاوض. الوقت ليس في صالح إسرائيل ولابد من انتزاع تنازلات تشكل انتصارا للجانب الإسرائيلي، فالجبهة الداخلية متصدعة واستمرار الحرب يعني مزيد من القتلى في صفوف الجيش ومزيد من الاضطراب في المنطقة وتهديد لخطوط التجارة الدولية الحيوية ومزيد من التذمر الدولي بسبب ما يتعرض له الفلسطينيين من أوضاع مأساوية ومزيد من العزلة لإسرائيل والولايات المتحدة. كما أن الوضع الداخلي في الولايات المتحدة ليس بأفضل منه في إسرائيل، فإدارة الرئيس بايدن الديموقراطية منشغلة بمحاولة الحفاظ على كرسي الرئاسة في انتخابات نوفمبر القادم ومعدلات التضخم مازالت مرتفعة مما يعني ارتفاع أسعار السلع الأساسية وعدم رضاء المواطن الأمريكي، كما أن هناك تذمر يزداد في بعض الولايات من ازدياد أعداد الهجرة غير الشرعية وعدم قدرة ولايات مثل نيويورك على استيعابهم وقلق في أوروبا بسبب احتمال فوز ترامب وتأثير ذلك على استمرار الحرب في أوكرانيا وكذلك انشغال الولايات المتحدة بمواجهة الصعود الصيني وتأثير تلك المواجهة السلبي على نمو الاقتصاد الأمريكي والدولي في وقت لم يتعافى فيه الاقتصاد العالمي تماما من جائحة كرونا. من هنا فإن استمرار الحرب في غزة ليس في صالح إسرائيل ولا يخدم المصالح الأمريكية في تلك المرحلة، ويبقى خيار التفاوض مع حركة حماس هو الأمثل رغم مرارته.

 

لقد خسرت إسرائيل الحرب مرتين: مرة عندما فشلت في التنبؤ بهجمات السابع من اكتوبر أو صدها، ومرة عندما فشلت حربها على غزة في تحقيق أهدافها المعلنة من القضاء على حركة حماس وتحرير الرهائن، ويبقى الخيار الأصعب هو التفاوض الذي سوف تبذل فيه إسرائيل وحلفائها كل الجهود وتمارس كل الضغوط من أجل إحراز نصر فشلوا في تحقيقه عسكريا وسياسيا.

 

——-

حاتم الجمسي،

كاتب ومحلل سياسي مستقل،

ماجيستير العلاقات الدولية، جامعة سيتون هول، الولايات المتحدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

Exit mobile version