بقلم: أحمد فاضل
في مشهد مُشبع بالتناقضات والشكوك، أثارت شبكة CNN الأمريكية الجدل حول مصداقيتها المهنية والإعلامية، بعدما بثّت تقريرًا لمراسلتها كلاريسا وارد، زعمت فيه اكتشاف “سجين سوري منسي” في أحد سجون النظام السوري بعد سقوط دمشق. وهو تقرير مليء بالفجوات والمغالطات، روجت له الشبكة لعدة أيام باعتباره “سبقًا صحفيًا”، لكنه سرعان ما تحول إلى فضيحة إعلامية هزّت مصداقية الشبكة.
مشاهد التقرير، وسلوك السجين الذي بدا كأنه يؤدي دورًا متقنًا، كانت كفيلة بكشف حقيقة المسرحية المفبركة التي حاولت CNN تمريرها على جمهورها.
كلاريسا المراسلة الصحفية المتمرسة والمحترفة ووجه تغطيات شبكة سي إن إن في مناطق النزاعات والحروب يفترض بها ألا تقع في هذا الفخ وأن تكون ضحية للتضليل لكنها وقعت.
كلاريسا التي روت عبر تقريرها قصة سجينٍ تركه جلادوه في العزلة التامة، لم يسمع حتى عن سقوط النظام، في حين كانت التصرفات والعبارات التي نطق بها الرجل أشبه بنص مكتوب بعناية. كيف لسجين عاش في عزلة تامة أن يقدم خطابًا مُعدًا مسبقًا وكأنه يعي تمامًا ما يجب أن يقوله؟
عقب العاصفة النقدية التي أعقبت بث التقرير، أعلنت CNN عن فتح تحقيق داخلي حول مصداقية التقرير، لكن هذا القرار أيضًا طرح عددًا من التساؤلات أهمها: هل قامت سي إن إن بتضليل جمهورها عمدًا سعيًا للسبق أم أنها أرادت تبييض صورة الرجل الذي تم الكشف عن هويته لاحقًا بأنه ضابط مختبرات سوري برتبة ملازم؟ أم أنها كانت ضحية لمعلومات مضللة؟ وإذا كان الاحتمال الثاني هو الصحيح، فما الذي قاد الشبكة إلى هذا الخطأ، خاصة في وقت نجح فيه السوريون في كشف الجرائم والانتهاكات التي فشل العالم في توثيقها على مدى عقود؟ وهل يجب أن يكون هناك ضغط جماهيري حتى تكشف الشبكة الحقيقة؟ وكيف سمحت شبكة بحجم CNN بتمرير مثل هذا التقرير المليء بالثغرات والمغالطات؟ وهل أصبح “التحقيق ما بعد الكارثة” هو الحل البديل عن التحقق الدقيق قبل نشر التقارير؟
ما يبعث على الأمل حقًا في مراجعة سياسة CNN التحريرية هو اعترافها بأن الفريق تعرض للتضليل من الرجل الذي ظهر في التقرير، هذا الرجل الذي تم الإفراج عنه من سجن سوري الأسبوع الماضي أثناء تصوير كاميرات الشبكة. بينما ظهرت كلاريسا وارد إلى جانب هذا الرجل الذي كان يبدو في حالة من الفوضى العقلية والعاطفية، وعندما قدم نفسه على أنه “مدني” يدعى عادل غربال، تم التأكد لاحقًا من قبل منظمة سورية لتقصي الحقائق أن هويته هي سلامة محمد سلامة.
ومع تزايد التساؤلات حول مصداقية التقرير، بدأ الشك يساور المتابعين حول سلوك الصحفية نفسها، خاصة بعد عدم وجود أي تفسير منطقي لوجود “عادل غربال” كسجين وحيد في زنزانة خالية. تصرفات الرجل المتناقضة بين الخوف الشديد والهدوء المفاجئ عززت الشكوك، وأكدت على أن هناك شيئًا غامضًا وراء هذا التقرير.
إن التحقيق الذي أعلن عنه لاحقًا كان خطوة ضرورية، لكنه فتح الباب على مصراعيه لتساؤلات أكبر حول مدى غياب الرقابة التحريرية داخل CNN. الصحافة الحقيقية تقوم على التحقق الدقيق من المعلومات قبل نشرها، فكيف يسمح الإعلام العالمي بحجم CNN ببث تقريرٍ مليء بالثغرات؟ لا يمكن أن يكون هذا سوى إهمال خطير، أو تضليل مقصود، لن يمر دون أن يُفضح.
الأهم من ذلك، تبقى الأسئلة الأكثر إلحاحًا:
هل كان دافع CNN وراء هذا التقرير هو السعي لتحقيق السبق الصحفي ولو على حساب مصداقيتها؟
هل كانت كلاريسا وارد ضحية التضليل من مصادرها؟
كيف يمكن لشبكة إخبارية بحجم CNN أن تروج لتقرير يفتقر إلى أسس الصحافة المهنية والأخلاقية؟
في تغطية الأزمات، يجب على الإعلام أن يتحلى بالحيادية والمصداقية، لا أن يتاجر بمشاهد مسرحية بحثًا عن الإثارة والسبق.
ففي ظل عالم يعج بالتضليل، يُفترض أن يكون الإعلام المنارة التي تقود الناس إلى الحقيقة. ولكن عندما تتحول شبكة بحجم CNN إلى أداة لنشر الشكوك والضبابية، فإننا أمام أزمة كبرى تتطلب وقفة حاسمة.
ومراجعة داخلية من القائمين على الشبكة لأن الصحافة بلا مهنية لا تساوي أكثر من أداة لتضليل الشعوب.
الإعلام الذي يتهاون في واجبه ويقدم للعالم حقائق مشوّهة أو موجهة، يفتح الباب أمام تشويه الوعي العام، ويهدد كل ما تقوم عليه القيم الإعلامية.