بقلم: أحمد فتحي
نيويورك: في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، خارج قاعة مجلس الأمن مباشرةً، تُعلق نسخةٌ من لوحة “غيرنيكا” لبيكاسو في تحدٍّ صامت.
تُصوّر اللوحة الرعب والحزن والفوضى – تذكيرًا واضحًا بوحشية الحرب. وقريبًا، ستصبح المدينة التي خلّدتها هذه اللوحة مسرحًا لفصل جديد في بناء السلام العالمي.
يُطلق تحالف الأمم المتحدة للحضارات، في 25 و26 أبريل، مبادرةً عالميةً جديدةً من جيرنيكا، إسبانيا، بعد قرابة 88 عامًا من قصف المدينة خلال الحرب الأهلية الإسبانية.
تحمل الحملة عنوان “دعوةٌ للسلام، ونهاية الحروب، واحترام القانون الدولي”، إنها استجابة عاجلة وفي الوقت المناسب لعالمنا المجزأ اليوم، حيث تحتدم الصراعات المسلحة، وتضعف الدبلوماسية، وتكافح التعددية من أجل البقاء.
تحدثتُ مع معالي ميغيل موراتينوس، الممثل السامي للأمم المتحدة لتحالف الحضارات، الذي سيقود الفعالية في غيرنيكا. في مقابلتنا، لم يُخفِ كلماته.
وقال لي: “غيرنيكا صرخة سلام. إنها المدينة التي عانت من أحد أوائل القصف الذي استهدف المدنيين. أصبحت هذه الصرخة عالمية بفضل بيكاسو، ولا تزال اللوحة مُعلقة هنا، خلف مجلس الأمن مباشرةً، لتذكير الدول الأعضاء بما ينبغي أن يكون عليه سلوكها”.
إلا أن هذه الرمزية لا تكفي، حيث يدفع موراتينوس نحو شيء أكثر طموحًا – أكثر إلحاحًا.
وقال: “نعلم جميعًا أن هناك جماعات ضغط من أجل الحرب. هناك شركات ومؤسسات تحقق أرباحًا طائلة من النزاعات. لكن لا يوجد جماعات ضغط من أجل السلام”.
وبهذه الكلمات، يبرز جوهر المبادرة. *دعوة للسلام* ليست مجرد حملة أخرى للأمم المتحدة، بل هي إعلانٌ بوجوب حشد السلام، عمدًا واستراتيجيًا. لقد طال انتظار *الضغط من أجل السلام*، على حد تعبير موراتينوس.
وبينما كنا نتجول في أروقة الأمم المتحدة، أوضح أن الأمر لا يقتصر على القيادة الأخلاقية فحسب، بل يتعلق أيضًا بالاقتصاد.
وقال: “حتى من منظور الأعمال، السلام مهم. ينبغي أن يهتم رواد الأعمال بالاستقرار. السلام يخلق فرص عمل، ويجذب الاستثمارات، ويجعل المجتمعات صالحة للعيش. إنه أمرٌ بديهي، ولكن يجب علينا التعبئة لجعله سياسةً مشتركة”.
ستتضمن الفعالية التي تستمر يومين في جيرنيكا جلسات نقاش مع ممثلين عن المنظمات الدينية، والمجتمع المدني، والنساء، وعروضًا ثقافية، ومناقشات يقودها الشباب، وعرضًا لفيلم *لماذا الحرب* للمخرج الإسرائيلي عاموس جيتاي. كما سيتضمن تكريمًا مهيبًا لضحايا قصف عام ١٩٣٧، وهو عملٌ صدم العالم وألهم أحد أشهر الأعمال الفنية المناهضة للحرب في التاريخ.
لكن هذه المبادرة ليست مجرد استعادة للأحداث، بل هي مبادرةٌ استشرافيةٌ وشاملةٌ عمدًا. لن تكون النساء والشباب مجرد مشاركين رمزيين، بل سيكونون محور العملية.
وقال موراتينوس: “ستُعقد مائدة مستديرة بعنوان “نساء من أجل السلام”. لأن التاريخ يُظهر أن النساء بناة سلام أقوياء. والشباب ليسوا مجرد مستقبل، بل هم حاضرنا. نحتاجهم ليقودوا الآن”.
كما تُمثل هذه الحملة بداية رحلة أوسع. فبعد جيرنيكا، تخطط منظمة تحالف الحضارات لنقل المبادرة إلى سراييفو، وربما ناغازاكي، وهما مدينتان تأثرتا أيضًا بصدمة الحرب وصمود السلام.
يتزامن هذا الجهد مع إعلان الأمم المتحدة عام ٢٠٢٥ عامًا دوليًا للسلام والثقة. لكن كما أكد موراتينوس، فإن هذه اللحظة ليست مجرد شعارات أو احتفالات، بل هي مشاركة عالمية جادة ومستدامة.
وقال: “هذه ليست مجرد ذكرى، بل هي تعبئة”.
في الواقع، بينما كنت أستمع إلى موراتينوس، محاطًا بصدى الأصوات الدبلوماسية وهمهمة أروقة الأمم المتحدة التي لا تتوقف، اتضح لي أن ما يُطلق في جيرنيكا ليس مجرد برنامج، بل هو حركة.
وربما – أخيرًا – العالم مستعد للإنصات.