بقلم:هشام المغربي
عندما خارت قواي، وذهب بريق العينين، واتشح الوجه بالصفاروالهزال، وبدأ صدري يعلو ويهبط في سرعة متزايدة، يزداد تواترها كلما مرت الدقائق، ونفسي يضيق حتى الاختناق بحثاً عن نسمة هواء عليلة لهذا الجسد الواهن، كنت فقدت قدرتي على الكلام بصوت مسموع…. فقط أهمس بصوت خافت، لم أفقد الأمل في النجاة ! ربما كان تشبثاً بأهداب الحياة، وربما كانت الرغبة الفطرية في مقاومة الموت الذي لاح لي يعلن عن نفسه ويقترب من جسدي، كانت الساعة تشير إلى ما بعد الفجر بدقائق، نظرت زوجتي إلى وجهي الشاحب والهلع يعتريها صارخة لا لن انتظر أكثر من ذلك!
هرعت نحو الباب تستدعي جارنا الطبيب (الأستاذ في كلة الطب ) الذي ما أن شاهدني على هذه الحالة إلا وقام بحملي في سيارته الخاصة …سمعته يردد : ( الوضع لايسمح بانتظار الإسعاف الوقت ليس في صالحنا… الدقائق لها ثمن )
توجه بنا إلى قسم الطواريء بالمستشفى التي يعمل بها، بعد ذلك لم أشعر بشيء كنت قد غبت عن الوعي تماماً.
وجدت روحي تطير إلى السماء تحلق في سماوات عالية بعيدة جداً ربما كانت بعيدة بعد الأرض عن السماء أو هكذا تخيلت، وجدتها ترقص على أنغام سماوية خلابة ، لم أعرف كيف تصعد الروح إلى السماء سوى في تلك اللحظة ! لحظات من راحة نفسية لم أعرفها قط.
لا أعرف كم طالت تلك الفترة ربما يوماً أوبعض يوم، أو عدة ساعات لا أعرف، عرفت بعد ذلك أن تلك الفترة طالت يوماً كاملاً، بعدها فتحت عيني فوجدتني ممدد على أحد الأسِرة الصغيرة وقد تدلت من أنفي بعض الأنابيب المتصلة بجهاز التنفس الصناعي حيث أن الرئتين لا تعملان البته! وأنابيب أخري مثبتة في يدي اليسرى، وغيرها في يدي اليمنى، ويقف بجانبي أحد الأطباء الذي ما أن شاهدني أتلفت حولي حتى بادرني بالقول: حمد الله على السلامة لقد كنت غائباً عن الوعي غياباً تاماً الحمد لله ما حدث لك هو معجزة بكل المقاييس!
شاهدت الموت حقاً وعدت إلى الحياة بفضل الله وبفضل دعاء زوجتي التي فقدت الوعي فور رؤيتي على هذه الحالة وبفضل دعاء شقيقاتي وأبنائهنوكل الأقاربوالمحبين والأصدقاء والأهل وبفضل دعاء الغرباء الذين لم يعرفوني وقد دعوا لي بظهر الغيب.
نزيف داخلي لم أكن أعرف عنه شيئاً، ثم بدأ النزيف يظهر فيغرق ملابسي وكل ماحولي! فقدت فيه أربعة لترات من سائل الحياة!
بعد عدة أيام في زنزانة (العناية المركزة) لا أذكر كم يوماً قضيتها هناك، حيث أنك في تلك الزنزانة لا ترى أحداً سوى ممرض أو ممرضة يتناوبون عليك تباعاً يشرفون على علاجات كثيرة تبث في أوردتك على مدى اليوم ، تنظر حولك فلا تعرف في أي وقت من اليوم أنت؟ الإضاءة مضاءة على مدار اليوم صباحاً ومساءً، الأسِرة البيضاء متلاصقة من حولك من كل جانب تلفها ستائر مسدلة بإحكام فلا تعرف من بجوارك أو من أمامك أو من خلفك ، تمكث في صمت ويجافي عينيك النوم إلا من لحظات قليلة جداً
على مدى الليل والنهار ستجد من يقيس لك الضغط أو النبض أو السكر أو الحرارة أو الأكسجين أو حالة الجسم العامة، أو من يأتي من المعمل ليأخذعينات من الدم ليعرف قياسات عديدة طلبها الأطباء المعالجين.
مرت الأيام على قلبي ثقيلة بالعناية المركزة حتى جاء الاستشاري صباح أحد الأيام قائلاً: الآن ممكن تنزل غرفة عادية!
كانت هذه البشرى لمن يخبره الطبيب بذلك كأنه ولد من جديد!
سيترك زنزانة الحبس الانفرادي المسماة بالعناية المركزة ويعيش في غرفة طبيعية يرى حوله الأهل والأصدقاء…. غرفة بها نوافذ ترى نور الدنيا تعرف الليل من النهار، أما عن النوم فلن تعرف له طريقاً حتى في غرفتك تلك، حيث سيدخل عليك جيوش من العاملين بالمستشفى سواء فرادى أو في مجموعات ليلاً أو نهاراً، ناهيك عن عاملات النظافة، ومسؤلوا الفندقة ومديروا التمريض ثم الطبيب المقيم ثم أعداد أخرى من الأطباء في كافة التخصصات.
وهكذا كل يوم دوال وتجد أنك لم يغمض لك جفن منذ وطأت أقدامك لهذا المكان! والحقيقة أنا لم تطأ أقدامي هذا المكان حيث نقلت له محمولاً على أذرع العاملين هناك.
وكان الخجل يعتريني كل يوم عشرات المرات وأنا أرى زوجتي ( التي لن أوفيها ولو مثقال ذرة مما قدمت لي ولو عشت مثل عمري فلن أستطع ) متكومة فوق مقعد صغير بجوار فراشي وكانت أيضاً لا تستطيع النوم ليلاً أو نهاراً تتكوم فوق هذا المقعد آملة أن تنعم بسويعات قلية من النوم دون جدوى.
طالت أيامي في المستشفى لتصل إلى خمسة وعشرين يوماً أجريت خلالها عمليتين جراحيتين ، العملية الأولى صنفها الجراح بأنها عملية ذات مخاطر عالية! كون منطقة العمل بجوار القلب والصدر والرئتين وأي خطأ غير مقصود نتائجه لا يحمد عقباها وفي ظل رئة معتلة أيضاً كان الأمر في غاية الصعوبة.
استغرقت العملية الأولى نحو ستة ساعات متواصلة، أخبرني بعد ذلك الجراح المسؤول عن هذه العملية أن طبيب التخدير كاد أن ينهار بعد خمسة ساعات كاملة وكاد أن يفقد أعصابه صرخ فيهم (أمامكم أقل من ساعة من الآن على الأكثر لن أضع له المزيد من حقن التخدير لن يفيق إذا حاولت!).
بعد هذه العملية الكبيرة أبلغني الطبيب أنني سأمكث ستة أسابيع كاملة دون أن أتناول أية مأكولات أو مشروبات بالفم فقط المحاليل الطبية كمرحلة أولى ثم يأتي بعدها أنبوب التغذية للمرحلة الثانيةكان الحرمان من الماء أصعب ما مر عليّ كنت أتمنى رشفة ماء ولا أستطيع، اقترح أحد الأطباء أن أبلل شفتاي بقطنة مبللة حتى لا تجف وتبدأ في التقشر ومع ذلك حدث هذا التقشر،يا لها من أيام عصيبة.
أما العملية الأخرى فكانت بعدها بعدة أيام وكانت من السهولة بما كان أن قال لي طبيبي ( هذه نزهة ترفيهية ) مقارنة بما خضناه في العملية الأولى لن تستغرق سوى ساعة أو ساعة ونصف على الأكثر وهدفها استخدام المنظارلتركيب أنبوب خارجي للتغذية متصل بالمعدةبدلاً عن المريء المعتل، من خلال تقنية جديدة تسمح لك بممارسة حياتك الطبيعية مع وجود الأنبوب!
كنت قد ضقت ذرعاً بالمكان وبالأطباء وبالتمريض وبالحياة ، رغم الأمل في الشفاء.
تضرعت إلى الله أملاً في الخلاص كنت أصرخ بصوت عال ( يارب يدك فوق أيديهم أي مصير ستختاره لي سأكون راضيا مطمئناً به فقط أطلب رحمتك)
ولهذه الأيام مقال آخر.