من أرشيف رؤية

المارد الصيني… وانهيار هوس الهيمنة الأحادية؟ بقلم: مصطفى قطبي

 

 من أرشيف رؤية

في التغيرات السياسية الكبرى على صعيد العالم لا بد من ممهدات تبنى على مدى سنوات عدة، يتبعها حدث كبير يسرِّع استكمالها ويهيِّئ الشروط اللازمة للتغيير. وما أكثر أمثلة التاريخ على هذا، لعلّ أقربها قيام الحرب العالمية الثانية التي أفضت إلى انتهاء أدوار لدول كثيرة على الساحة الدولية، وإلى بروز القطبين الاشتراكي والرأسمالي وقيام الحرب الباردة بينهما.

 

لقد أفاق العالم من كابوس الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلة حلف وارسو، وما كانا يمثلان من قوة عظمى نافست الولايات المتحدة الأميركية وحلف الأطلسي على زعامة العالم. ووجدت الولايات المتحدة نفسها وحيدة تتربع على عرش الدولة الأقوى في العالم. لكن تداعيات الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 سبتمبر أضرت كثيراً بقدرات الولايات المتحدة، وجعلت بعض الدول ترنو إلى منافسة الأميركيين.

فهل تنتظر الولايات المتحدة والعالم ظهور عدو أكبر ينافسها على هذا الموقع وقد يزحزحها منه؟ و هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة؟

يقول مثل صيني إذا امتطيتَ نمراً فلن تنزل عن ظهرهِ بسهولة”. وهذا المثل يختصر إلى حد بعيد طموحات الصين وخططها المتعلقة بدورها في الساحة الدولية.

 

المراقبون ينطلقون في مناقشة جملة من المسائل المتعلقة بالأوضاع الداخلية للصين وبالسياسات الدولية التي تنتهجها، من خلال التركيز على الجديد والابتعاد عن المناظرة الفكرية الأيديولوجية التي تخص الصين وحزبها الحاكم منذ العام 1949، وهو العام الذي أعلن فيه عن قيام جمهورية الصين الشعبية بقيادة (ماوتسي تونغ) واندحار خصمه اللدود (تشن كاي تشيك) الذي لجأ إلى جزيرة تايوان في بحر الصين ليعلن من فوق أرضها عن قيام جمهورية الصين الوطنية.

فالزعيم الصيني الجديد، ينتظر ملفات معقدة خلال فترة رئاسته هذه المرة والوضع الدولي، وعلى مستوياته المختلفة، يغلي ويمور بأزمات هائلة في أكثر من مكان، وتجاه أكثر من عنوان يثير اهتمام الصين انطلاقاً من وزنها ودورها الدولي بعد أن باتت منذ أكثر من عقدين من الزمن قوة مقررة في ميدان السياسات العالمية، خصوصاً في الميدان الجانب الاقتصادي.

 

فماذا عن الصين التي ”ربّما” قلّما يفصَّل في شأنها؟


قبل الحديث عن دور الصين الاقتصادي والعسكري وعن أسباب ولوجها الجانب السياسي لحلّ الأزمات العالمية لأول مرة وبهذه الثقة ومن البوابة السورية، لا بد من الإشارة بداية إلى الدور الذي لعبته أميركا خلال العقود الماضية للحد من بروز التنين الصيني بطرق مختلفة وفي كثير من القضايا، سواء فيما يتعلق بدوره في هيئة الأمم المتحدة أو في خلق مشاكل له مع جيرانه وخصوصاً تايوان واليابان، أو من خلال الضرب على وتر حقوق الإنسان في الصين الذي دائماً ما تتغنَّى به أميركا مدّعية أنها المدافع الأساسي عن هذه الحقوق.


بعد الإعلان عن قيام جمهورية الصين الشعبية استمر كفاحها قرابة اثنين وعشرين عاماً للانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة، وخلال كل تلك الفترة كانت الولايات المتحدة تدرك مدى أهمية الصين وتنظر لها كعملاق نائم، وظلت الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت ضغط الولايات المتحدة ترفض قبول الصين الشعبية في مقعدها بالمنظمة كممثل وحيد عن الشعب الصيني حتى عام 1970 حين أدركت الولايات المتحدة عدم استطاعتها إيقاف مدِّ الصين الشعبية على الساحة الدولية وعدم قدرتها على وقف انضمام الصين، وعند ذلك انتهجت أميركا سياسة جديدة أعلن عنها وزير خارجيتها الأسبق ”وليم روجرز” قائلاً: ”إن الولايات المتحدة ستؤيد ضم الصين الشعبية، ولكنها ستعارض طرد فورموزا” (الإسم القديم لتايوان)، وهذا يوضح المحاولات الأميركية لإضعاف وحدة الصين والتعامل مع الصين وتايوان كدولتين منفصلتين لكل منهما ممثل في المنظمة الدولية.

واعتبرت الحكومة الصينية أن دعم واشنطن لتايوان تدخّل سافر في الشؤون الداخلية للصين هدفه ممارسة الضغط على بكين وخلق توتر في المنطقة للامتثال لسياسات أميركا كون الأخيرة تدرك مدى الخطر الصيني على الهيمنة الأميركية، وبهذا الصدد يقول الصينيون إن تايوان كانت على وشك التوحد بالوطن الأم لولا تدخّل الولايات المتحدة.

 

وفي شباط من عام 1995 أعلنت وزارة الدفاع الأميركية بشكل واضح تحت عنوان ”الإستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة بشأن منطقة شرق آسيا ـ المحيط الهادي”، أن الصين تمثل تهديداً للأمن في شرق آسيا، ولذلك فإن على الولايات المتحدة الاحتفاظ بقوات عسكرية في المنطقة إلى أجل غير مسمى، وهذا ما تجسد عملياً عام 2000 حين تم توسيع برنامج التدريب الأميركي للعسكريين التايوان.


أما على صعيد حقوق الإنسان ففي عام 1999 أصدر مجلس الشيوخ الأميركي قراراً يدين فيه حالة حقوق الإنسان في الصين، إلا أن الصين ترى بالمقابل أن واشنطن تقوم بتوظيف مغرض لملف حقوق الإنسان معتبرة إياه ورقة ضغط على السلطات الصينية، فقامت الصين بدورها بإصدار تقرير تحت عنوان ”حقوق الإنسان في الولايات المتحدة عام 1999”، تشير فيه إلى أن أميركا لا تحظى بسجلّ طيّب في مجال حقوق الإنسان، كما أنها تعاني من تفشي العنصرية ومشكلات أخرى، وبالتالي لا تصلح لإصدار أحكام على الدول الأخرى.


ولم تكتفِ أميركا بذلك بل راحت توسع نطاق تحالفها الأمني والسياسي والعسكري مع بعض قوى الجوار الإقليمي للصين كاليابان مثلاً، هذا التحالف الذي تأسس لمواجهة الخطر السوفييتي السابق، ومن ثم تحول لاستيعاب القوة الصينية ومواجهة الأخطار المحتملة على المصالح الأميركية واليابانية في منطقة شرق آسيا، حيث إن الوضع الجغرافي الإستراتيجي لليابان هيَّأ قاعدة عسكرية إستراتيجية للولايات المتحدة قوامها أكثر من 47 ألف جندي أميركي.


وبالنسبة للهند فقد قامت واشنطن بتزويدها بما تحتاجه من معدات وأسلحة متطورة وصواريخ بعيدة المدى يمكن أن تمثل تهديداً قوياً للصين.

إن قادة الصين يرون أن الإستراتيجية الأمنية التي تحاول واشنطن تطبيقها سوف تحوّل فضاء آسيا إلى ساحة معركة جديدة وستهدد السلام في تايوان وآسيا والباسفيك، لذلك قامت الصين بتحذير واشنطن مراراً من أن إقدامها على بناء هذه المنظومة سيدفع بكين إلى تقديم تكنولوجيا الصواريخ لدول أخرى تعادي أميركا.

 

إن هذه المحاولات الأميركية التي استهدفت تطويق وإضعاف الصين كي تضمن مصالحها الحيوية في آسيا لم يُقعِد الصين مستسلمة، بل دفعتها كي تمارس دوراً أكبر في معادلة الأمن الإقليمي على كل الصعد، فعلى صعيد العلاقات مع الدول التي حاولت أميركا استغلالها لصالحها وضد الصين لم يمنع ذلك من سيطرة البعد الاقتصادي على العلاقات بين بكين وهذه البلدان، فأضحت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لليابان، كما أصبحت سادس أكبر سوق لها أيضاً. فضلاً عن علاقاتها مع أصدقائها الباكستان وميانمار وسيريلانكا ونيبال وبنغلادش في مختلف المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية. أما على صعيد علاقاتها مع روسيا فقد توسعت المصالح وتطورت العلاقات بعد انتهاء الحرب الباردة وازدياد مخاوف الطرفين الصيني والروسي من الوجود العسكري الأميركي في منطقة المحيط الهادي، فتوطد التعاون بين الصين وروسيا على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي نيسان 1997 وصلت العلاقات بينهما أوجها، وصدر بيان عن القمة الروسية الصينية أكد رفضهما سياسة القطب الواحد التي تنتهجها واشنطن وعدم الارتياح لسياسة توسع حلف الأطلسي وتدعيم التكتلات العسكرية، والتأكيد على رغبة كل من موسكو وبكين في إقامة نظام دولي جديد قائم على تعدد الأقطاب تتعامل فيه الدول على قدم المساواة.

 

إن الحديث الآن، والكتابة عن جمهورية الصين الشعبية لا يتأتيان انطلاقاً من رؤية أيديولوجية بحتة ومحضة كما يحلو للبعض من المتسرعين، بل من منطلق دراسة ظاهرة التَحول الجارية في الصين الشعبية منذ العام 1976، والتي بدأ معها الخفوت التدريجي لظاهرة التزمت الأيديولوجي التي رافقت قوى وأحزاب ومنظومات سياسية على امتداد المعمورة خلال العقود التي تلت انتهاء الحرب الكونية الثانية عام 1945 حيث سقطت نظريات وأفكار وانهارت عصبيات (فاشية ونازية على سبيل المثال) وحل مكانها نظريات وأفكار أحادية الحامل والاتجاه، وصولاً لانهيار منظومة حلف وارسو، ومحاولة الولايات المتحدة من بعدها تشكيل القطب الابتلاعي الجديد في العالم تحت عنوان العولمة (لكنها العولمة الأحادية الوجهة).

وعليه، فالقيادة الصينية الجديدة تضع أمامها وللمرحلة التالية قضايا رئيسية تتمحور حول ملفات مترابطة، أولها الملف الاقتصادي وببعده ومنعكساته والذي يُمثل الهم الرئيسي. و ثانيها الملف السياسي ومستقبل علاقات الصين ودورها في الساحة الدولية.

 

فخلال فترة قصيرة نسبياً أقل من عشرين عاماً أصبحت الصين عملاقاً اقتصادياً، وقفزت إلى المرتبة الثانية باقتصاديات العالم، لكن تنامي قدرات الصين العسكرية والسياسية لم يحدث بالسرعة نفسها التي حصل فيها نمو الصين الاقتصادي، و يمكننا تفهم الأمر على ضوء الفلسفة الاستراتيجية العليا للصين، فقد استوعب الصينيون الدرس الروسي واستفادوا منه عندما تحول الاتحاد السوفييتي إلى عملاق عسكري وسياسي دون أن تتطور قدراته الاقتصادية بنفس المستوى، وكانت النتيجة أن انهار الاتحاد السوفييتي لأسباب اقتصادية، كما أفادت تجربة ”البريسترويكا” الروسية الصينيين الذين تصدوا بقوة لشبح التخريب الذي أطل على الدولة الصينية في أحداث ساحةتيان آن مين”، و ركز المارد الصيني خلال العقدين الأخيرين على النمو الاقتصادي.

 

لكن الصين اليوم أخذت تلعب دوراً سياسياً كبيراً لا يمكن إنكاره، فقد حضرت بقوة في مجلس الأمن الدولي عبر استخدامها لحق النقض ثلاث مرات في فترة قصيرة بالتشارك مع الروس، وأخذ الكثيرون يتحدثون عن المحور الاستراتيجي الروسي ـ الصيني، ولهذا التحالف مبررات و دوافع جيوسياسية كبيرة ومهمة للطرفين الروسي والصيني اللذين يحتاجان لبعضهما في أكثر من مجال استراتيجي قد تصل في بعض المجالات لحد التكامل، ففي المجال الاقتصادي يحتاج الصينيون لموارد الطاقة الضخمة و الكبيرة جداً في روسيا، والصين أيضاً بحاجة للموارد الزراعية الكبيرة في روسيا من قمح و غيره، كما تحتاج الصين للتكنولوجيا العسكرية والفضائية الروسية المتطورة، وبدورهم يحتاج الروس للسوق الصينية الهائلة، وللتكنولوجيا الرقمية العالية التي تتميز بها الصين، وتدرك روسيا و الصين أنهما بحاجة للوقوف معاً في وجه الغرب الذي يريد بسط هيمنته على الساحة الدولية، لكن ذلك لا يعني أن العلاقات بين الطرفين الروسي و الصيني لا تشوبها شائبة، فهناك مشاكل خفية حول سيبيريا الشرقية التي تسللت إليها في العقدين الأخيرين أعداد كبيرة من الصينيين إلى الحد الذي اعتبر تهديداً للتركيبة الديموغرافية للمنطقة، وهو الأمر الذي دفع بالرئيس ”بوتين” إلى القيام بزيارة طويلة للمنطقة استغرقت عدة أسابيع للاطلاع على الواقع عن كثب، والروس يعانون مشكلة ديمغرافية جدية تتضح في انخفاض معدلات المواليد الجدد إلى الحد الخطير، وتبين الإحصائيات أن النمو السكاني في روسيا في الحقبة ما بعد السوفييتية أصبح سلبياً، أي أن عديد السكان بدأ ينخفض بدلاً من الزيادة، وهو أمر شديد الخطورة في دولة هي الأكبر من حيث المساحة في العالم وتتجاور مع أكبر دولة من حيث عديد السكان في العالم، و بلغة الأرقام يعيش في روسيا أقل من 140 مليون من البشر على رقعة تتجاوز 17 مليون كيلومتر مربع في حين يعيش مليار ونصف المليار من البشر في الصين على رقعة من الأرض تقارب تسعة ملايين وستمائة ألف كيلومتر مربع، و هنا يلعب العامل الديمغرافي دوراً مهماً في رسم سياسات الطرفين، و سياسة الطفل الواحد للأسرة الصينية قد تعيق التطور الاقتصادي الصيني لأن شيخوخة المجتمع الصيني الحتمية قد تعيق الاقتصاد، وبالتالي ستضطر الصين في وقت من الأوقات إلى التخلي عن هذه السياسة.

 

و يشعر الروس أن ثرواتهم العظيمة موضع أطماع الآخرين، وعلى رأس هذه الثروات وجود أعظم احتياطيات العالم من النفط و الغاز والمياه العذبة و الغابات و الأراضي الزراعية الواسعة والتي ازدادت أهميتها في ظل الاحتباس الحراري الذي أدى إلى إمكانية استخدام أراضٍ كانت صحارى جليدية في الزراعة، وقد عبر الرئيس الروسي عن مخاوف القيادات الروسية بقوله في حديث لقناة روسيا اليوم بتاريخ 22/2/2012:  ”فطالما أن ”بارود” القوات النووية الإستراتيجية، التي تم خلقها بجهود آبائنا وأجدادنا الجبارة، يظل (البارود) ”جافا”، لم يجرؤ أحد على إطلاق العنان لعدوان واسع النطاق ضدنا”، و أضاف ”بوتين”: ”تندلع أمام أعيننا حروب إقليمية ومحدودة جديدة، وتظهر مناطق عدم استقرار وفوضى موجهة ومفتعلة… أضف إلى ذلك من الممكن ملاحظة المحاولات المتعمدة لاستفزاز مثل هذه الصراعات في المناطق المجاورة المباشرة لحدود روسيا وحلفائنا… نحن نشهد كيف انهارت وانحطت قيمة المبادئ الأساسية للقانون الدولي، وبخاصة في مجال الأمن الدولي، في هذه الظروف لا يمكن لروسيا لاعتماد على الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية فقط لرفع التناقضات وحل الأزمات… وتقف أمام دولتنا مهمة تطوير الكفاءة العسكرية، في إطار إستراتيجية الاحتواء وعلى مستوى الكفاءة الدفاعية المطلوبة… وعلى القوات المسلحة والقوات الخاصة ووحدات الجيش أن تكون مستعدة للقيام برد سريع وفعال على التحديات الجديدة إنه شرط أساسي لتشعر روسيا بالأمان ويأخذ شركاؤنا حجج بلادنا بعين الاعتبار في المنظمات الدولية المختلفة”.

إن المزايا التي تمتعت بها الصين خلال السنوات الأخيرة أصبحت خارقة للغاية ويمكن الإشارة إلى بعض منها باختصار شديد على النحو التالي:

أولاً: من الناحية الاقتصادية:

1ـ أصبحت الصين بين الثلاث الكبار المصدرين للسلع في العالم، ومن المعتقد أن تصبح الأولى في غضون سنوات قليلة جداً.

2ـ من المرجح أن تحتل الصين قريباً مركز القوة الاقتصادية الأعظم في العالم كما تقول تقديرات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيره من المؤسسات الاقتصادية الدولية.

ثانياً: من الناحية العسكرية:

1ـ امتلاك الصين منذ سنوات عديدة للصواريخ البالستية العابرة للقارات، إضافة لمتوسطة المدى، وكذلك للغواصات النووية الحاملة للصواريخ البالستية، فضلاً عن القاذفات الإستراتيجية، وأكثر من 2400 قنبلة نووية، وتمتلك ما يفوق 3500 صاروخ يبلغ مداها 14900 كم، وما يزيد على 38 ألف دبابة و49 ألف قطعة مدفعية، وأكثر من 500 سفينة وقطعة بحرية، إضافة إلى آلاف الطائرات بما يقارب ضعفي الطائرات الروسية، مع العلم أن الصين غزت الفضاء منذ عام 1973، وأرسلت أكثر من قمر صناعي لمهمات عسكرية وتجسسية.

2ـ منذ نحو 15 سنة وفي تقرير المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن 4/8/1997 الذي يعد المؤسسة العسكرية الرئيسية في العالم جاءت بعض التوقعات العسكرية عن دول العالم، وقد تضمن في استنتاجاته ”التي أصابت إلى حد كبير’ حول الصين ما يلي:

”إن القوة النووية الصينية في غضون 15 عاماً ستتمتع بالقدرة على إصابة الأهداف في آسيا وغير آسيا والساحل الشرقي للولايات المتحدة، كما أنها ستمتاز بقوة نووية أكثر فاعلية من الصواريخ البالستية العابرة للقارات القادرة على حمل رؤوس نووية يتراوح مداها من 8 ـ 12 ألف كم، وستطور ما بين 3 ـ 4 غواصات نووية من الجيل الثاني المزود بصواريخ يزيد مداها على 8 آلاف كم، كما أنها ستقوم ببناء 6 غواصات مزودة بالصواريخ البالستية القادرة على إصابة أهداف في آسيا تحت الماء، وسوف تمتلك عدداً من صواريخ جو ـ جو يصل مداها إلى أكثر من 900 كم مزودة برؤوس كيميائية ونووية”.

وبالفعل وصلت الصين إلى حالة الردع النووي وأصبحت قوة لا يستهان بها من قبل القوى النووية الأخرى في العالم.

ثالثاً: على الصعيد السياسي:

على الرغم من كون الصين من الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ولها القدرة على استعمال حق الفيتو، إلا أنه لم يُسجَّل لها عبر تاريخها في هذا المجلس أن استطاعت أداء دور بارز من موقعها، بل كانت مواقفها دائماً أقل من الدول الأخرى الأربع الدائمة العضوية في التأثير والفاعلية، فلم تخرج عن نطاق السياسة التي تتجنب المخاطرة والتي تنتهج منهجاً بعيداً عن المشكلات التي تدور على الساحة الدولية، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بقضية كوسوفو، لم تستطع الصين الخروج عن نطاق التصريحات على الرغم من أن السفارة الصينية قد استهدفتها طائرات الناتو في بلغراد، وكذلك الأمر أثناء الأزمة التي حدثت بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية حليف الصين جرّاء تصنيع كوريا للسلاح النووي، وأثناء ذلك لم يكن موقف الصين ذا تأثير في هذه الأزمة ـ على الرغم من أن التهديد الأميركي قد أصبح بالقرب من الصين ـ سوى لعب دور الوسيط بين أميركا وكوريا عام 2003، أضف إلى ذلك الدور السياسي الضعيف الذي قامت به الصين عند الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق.

لكن الدور السياسي للصين بدأ يبرز بقوة منذ العام الماضي، إذ استخدمت حق الفيتو ثلاث مرات في أقل من عام واحد ضد المشروع الأميركي الفرنسي البريطاني المقدم في مجلس الأمن لدخول حلف الناتو إلى سورية.

إذاً نحن أمام قدرات ثلاث فائقة امتازت بها الصين إلا أنها لم تعلن ميلادها إلا تباعاً، فالقدرة الاقتصادية الواضحة التي برزت من خلالها الصين قوة عظمى على الصعيد العالمي منذ سنين، والقدرة العسكرية الهائلة التي لم تستخدمها، ولم تخرج خارج حدود الصين بعد، في حين القدرة السياسية الكامنة التي فعّلتها لأول مرة معلنة ولادتها، فكانت لحظة البدء من البوابة السورية ضد المشروع الأميركي الذي طالما وقف ضد استقرار وطموحات الصين وحاول تحجيم قدراتها في البروز كقطب في عالم تسعى الصين لأن يكون متعدد الأقطاب ودون هيمنة لقطب بعينه.

فبكين إلى جانب تعاملها مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية تواجه مشاكل حقيقية على الجبهتين الجيوبوليتكية والاستراتيجية، في سعيها للمساهمة في ولادة عالم متعدد الأقطاب والمشاركة بشكل أكبر وأفعل في الساحة السياسية الدولية وإدارة الأزمات العالمية.

ومن هنا، وعلى ضوء تشابك الأمور والمعطيات وتداخل السياسي والاقتصادي وبروز الصراعات الخفية الهادفة للاستحواذ على المكاسب في السوق الدولية، جعل من إشكاليات وتعقيدات العلاقات الأميركية الصينية أوسع بكثير وأعمق من أي قضية مفردة أمام واشنطن، فهي تلخص القضايا العالمية والإقليمية المهمة، كما تلخص إلى حد بعيد هذا النمو المتزايد لمراكز القوى والاصطفافات في العالم على حساب انحسار وتراجع القطبية الأحادية الأميركية وسياسة العولمة التي أرادت منها الولايات المتحدة ابتلاع العالم بأسره. كما في بروز حالة التنوع الجغرافي وحتى الأيديولوجي والسياسي العام في الاصطفاف إياه، خصوصاً مع بروز مجموعة دول البريكس الدولية (الصين، روسيا، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا) والمتوقع أن تدخل منها كلاً من البرازيل والهند وجنوب إفريقيا للعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وهو أمر مهم جداً، ويتوقع له أن يترك انعكاساته على مجمل مسارات السياسات الدولية خلال العقدين القادمين

وفي هذا السياق، كان وما زال للموقف الصيني الأثر الكبير في لجم الإندفاع والتهور الأميركي تجاه العديد من الملفات الدولية المعقدة، وتجاه العديد من المواضيع المثارة على كل المستويات الأممية، وقد كان الملف النووي الإيراني واحداً منها، حيث سقطت سياسة التهديد العسكري الأميركي تقريباً وحتى بالنسبة لسياسة العقوبات التي تلوح واشنطن بتصعيدها من حين لآخر ضد إيران. وهو ما دفع بالرئيس الأميركي ”باراك أوباما” طوال حقبته الرئاسية الأولى، لتفضيل الخيارات الدبلوماسية بصورة واضحة، وتركيزه على العمل مع حلفائه سياسياً ودبلوماسياً كبديل عن استخدام القوة، في رؤية لا يستطيع من خلالها تجاهل الدور الروسي وحتى الصيني في معالجة الموضوع النووي السلمي الإيراني.

وخلاصة القول، وبعيداً عن تقييم ونقد سلطة وفكر وأيديولوجية الحزب الحاكم في الصين وطبيعة النظام الشمولي كما يرى الكثيرين منا، فإن بكين تشق طريقها في ميدان الفعل الدولي على كل مستوياته باقتدار باحثة عن مصالحها فيما نزال نحن العرب غرقى في سبات عميق.

على الهامش:

 

قبل أكثر من عقدين سُئل الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الأب عن الصين وعن احتمال قيام تغيير سياسي كبير فيها على غرار الكتلة الشرقية السوفييتية فرد بوش بالقول: ”دعوا ذلك الوحش نائماً”،  الوحش الصيني استيقظ و اليوم أرى قادة الصين و كأنهم يقولون دعوا الوحش الأمريكي يخلد للنوم بهدوء.

 

 

 

 

 

 

رؤية نيوز

موقع رؤية نيوز موقع إخباري شامل يقدم أهم واحدث الأخبار المصرية والعالمية ويهتم بالجاليات المصرية في الخارج بشكل عام وفي الولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص .. للتواصل: amgedmaky@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

إغلاق