مقالات
أميركا تدمّر الشّعوب تحتَ ذريعة حقوق الإنسان والدفاع عن الحريات! – مصطفى قطبي
قناع جديد يسقط، ليكشف الوجه الحقيقي للولايات المتحدة، التي طالما نصّبت نفسها مدافعاً عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأعطت لنفسها الحق في توزيع شهادات حسن السلوك على الآخرين، لكنها لم تعتمد يوماً المعيار الأساسي لتلك الحريات والحقوق، سواء داخل أراضيها أو خارجها، وهي أكثر الدول انتهاكاً لحقوق البشر.
فقد حددت أهدافها للقرن الحادي والعشرين، بأن يكون لواشنطن السيطرة الامبراطورية على العالم بمختلف الوسائل، بما فيها التدخل العسكري المباشر وهو ما حدث فعلاً في غزو أفغانستان ومن ثم العراق. واليوم كلنا شهود عيان على التدخل السافر في ليبيا وسوريا واليمن ولبنان…، ناهيك عن توظيف منظمات الأمم المتحدة كغطاء لإضفاء الشرعية على انتهاكات الولايات المتحدة لسيادة الدول ولحقوق الإنسان ومن خلال تصميم وصفات جاهزة للأنظمة السياسية يعدها صندوق النقد والبنك الدوليين بهدف تفتيت كيانات الدول وتهديد وحدتها واستقلالها ومن خلال الاختراق الثقافي والإعلامي…
يجري اليوم استغلال ورقة الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم لأغراض الاستغلال الاقتصادي والسياسي والثقافي… وكأداة جديدة للتدخل الخارجي الفظ في الشؤون الداخلية للدول الأخرى… وتوظف الولايات المتحدة بنزعتها الإمبراطورية فكرة حقوق الإنسان في الوطن العربي من أجل خلق الفوضى والتشرذم والتفتيت، خدمة للمصالح الأميركية والغربية المتقاطعة مع مصالح الكيان الإسرائيلي الغاصب. ومن خلال المساعي الرأسمالية الغربية الحثيثة لفرض وترسيم قواعد النموذج الاقتصادي الرأسمالي وتشكيل نظام عالمي جديد من خلال التركيز على خلق بيئة سياسية جديدة تتكيف مع المصالح الاقتصادية والسياسية الأميركية في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعيشها الغرب الرأسمالي. وتعمل إدارة الرئيس ”ترامب” من خلال تبنيها خطاباً منمقاً في دفاعها عن حقوق الإنسان ووعود نشر الديمقراطية، على توسيع مناطق حروبها والتي تنتهك فيها حقوق الإنسان وكذلك التطلعات الديمقراطية للشعوب.
وأولى الخطوات ضمن هذه الاستراتيجية كانت في العراق، البلد الذي ابُتلي بأمريكا وعانى وما يزال من ويلات وجودها العسكري فيه. فالعراق … الجرح العربي الدامي غزته أمريكا عام 2003 فهدمت الدولة العراقية وحلّت الجيش وأصبح سجن أبو غريب رمزاً للفضائح التي قام بها الأمريكيون والتي شاهدها العالم بأسره، وبعد الغزو بدأت حملات تحريض إعلامي وتمويل منظم للإرهاب قادته بعض الدول الخليجية ولم ترَ فضائيات الفتنة في المجتمع العراقي إلا الخلافات والتناقض وقام الإرهاب برعاية إقليمية دولية بتهجير منظم غايته هدم التنوع في مجتمع يعدّ من أكثر المجتمعات تمسكاً بهويته وثقافته المتنوعة وعمقه الحضاري فهجّر أكثر من أربعة ملايين عراقي وما زالت التفجيرات الإرهابية مستمرة حاصدة العديد من الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى أنهم عرب.
واليوم، لا زال مستقبل العراق مظلماً، بل مرعباً في ظل غياب التوافق السياسي الذي زرعت بذوره وغَذته الولايات المتحدة والتي ما زالت سفارتها التي تعتبر من أكبر السفارات في العالم من حيث عدد العاملين فيها من دبلوماسيين وأمنيين وأعضاء شركات أمنية متخصصة، تعيث فساداً في العراق من خلف الستار.
أما في أفغانستان، وبعد أكثر من عشر سنوات على الغزو الأمريكي والأطلسي لها، فهي تغوص في مستنقع من العنف والقتل والفساد والإرهاب، ومع ذلك تؤكد الإدارة الأمريكية صباح مساء، أن أفغانستان حليف رئيسي لواشنطن، وكأنَّ مثل هذا الإعلان يُطعم الشعب الأفغاني و يخلصه من ويلات الفقر والتطرف والجهل والعنف التي تسود بلاده.
وفي باكستان، يستمر قتل الباكستانيين جراء غارات الطائرات الأميركية من دون طيار بالعشرات، وغالباً ما يكون ضحايا هذه الطائرات من طراز ”درونز” من النساء والأطفال، وتطال أحياناً خيام الأعراس ومجالس العزاء.
أما الصومال الدولة العربية الآمنة والهاجعة على كتف أفريقيا شواطئ يزيد طولها على أربعة آلاف كيلو متر توفر ما يقارب ثمانية مليارات دولار هي ريع العبور البحري في مياهها وذلك فضلاً عن ثرواتها السمكية، تدخّلت فيها أمريكا والنفط السياسي فدفعوها إلى مواجهات مسلحة وانتهى بها الحال إلى ما نراه اليوم دولة منهارة وحرب أهلية تقودها جماعات أصولية متشددة.
أما في دول أخرى، ففي سماء اليمن وحتى الفلبين تحلق أيضاً الطائرات بدون طيار وتطلق نيرانها القاتلة، ولم يُقدم ”ترامب” على وقف غاراتها رغم اعتراف الجنرالات بأن نسبة الأضرار أي قتل المدنيين، عالية في معظم الأحيان.
أما ليبيا فهي شاهد على ديمقراطية أمريكا، فقد ضاعت في غياهب الفوضى والسلاح، وما زال القتل مستمراً، وفي لبنان زرعوا التوتر الطائفي، وفي مصر ما زالت الدولة تحارب مخلفات الإرهاب بعد الربيع العربي المزعوم، واليوم في سورية الأطراف ذاتها والاستهداف نفسه أمريكا وأذرع لها في الخليج تملك الإعلام التحريضي وتموّل الإرهاب وتجلب المرتزقة والتكفيريين القتلة من أنحاء الأرض تدرّبهم وتدفع بهم إلى سورية.
والحرب ضد ليبيا هو النموذج الذي تعمل وفقه الولايات المتحدة في محاولة لإخضاع دول أخرى من بينها سورية وإيران. وبما أن العديد من الدول ترفض إقامة قواعد عسكرية أميركية فوق أراضيها، يخطط البنتاغون على نشر سفن في المياه الدولية ابتداء من الخليج باتجاه الشرق يمكن استخدامها كقواعد عائمة خاصة بالقوات الخاصة. وثمة قواعد جوية وبحرية جرى إقامتها أو يجري إقامتها في تايلاند والفليبين وسنغافورة وأستراليا ودول أخرى.
ينطبق على أميركا المثل العربي القائل ”رمتني بدائها وانسلت” فهي تدعو مجلس حقوق الإنسان مثلاً إلى أخذ زمام المبادرة والتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في أي بلد يعارض سياساتها، وفي الوقت نفسه توبخ هذا المجلس إذا حاول مناقشة جرائم الكيان الاسرائيلي حتى ولو كانت موثقة. وهي تجيش الجيوش وتغزو البلدان وترتكب أفظع الجرائم بحق الإنسانية بذريعة تحقيق الحريات ومحاربة الإرهاب ومكافحة ”الديكتاتورية” وفي الوقت ذاته تسهل للمرتزقة وشركاتهم الأمنية كل السبل لانتهاك حقوق الإنسان من العراق إلى أفغانستان مروراً بأفريقيا وغيرها.
فهذه الدولة لم يسبقها أحد في ابتداع أساليب ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية جمعاء، وكذلك لم تتمكن أي جهة أو دولة في العالم من اللحاق بها في ترويج وتسويق اختراعات أدوات ووسائل انتهاكات حقوق الإنسان، حيث لم تترك وسيلة ممكنة في هذا الأمر إلا وأنتجتها واستخدمتها، وبرعت في العقدين الأخيرين في محاولات إخفاء جرائمها مستخدمة الجو والفضاء والبحر والبر بذريعة محاربة الإرهاب. ولم يعد خافياً على أحد قيام أميركا بافتعال المشاكل وفبركة الروايات وممارسة التضليل وبث الافتراءات في العالم ومن ثم التحرك على مستوى المؤسسات الدولية ومنها المرتبطة بحقوق الإنسان للتدخل في هذه المناطق تحت ستار دعاوى جاهزة وكاذبة وملفقة لتحقيق المصالح الأميركية والصهيونية، وما جرى خلال العقدين الأخيرين في افغانستان والعراق ويجري اليوم في ليبيا واليمن والصومال والسودان وسورية وغيرها من المناطق أمثلة صارخة على خبث السياسة الأميركية وانعدام أي قيم لاحترام حقوق الانسان فيها.
فهذه هي الولايات المتحدة الأمريكية قوة عمياء طليقة السراح في هذا العالم تسرح وتمرح كما تشاء، تعاقب هذا، وتكافئ ذاك، دون أي معايير أخلاقية وحسب مصالحها الخاصة ومصالح حلفائها لاسيما مصالح إسرائيل وهي اليوم تمثل أبشع مثالٍ على نظام يدّعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، بينما يدينه أقرب الناس إليه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، نشر قبل أيام الرئيس الأمريكي الأسبق ”كارتر” مقالاً في صحيفة ” هيرالد تربيون” قال فيه: ”إنَّ بلاده تخلت عن دورها التاريخي في الدفاع عن حقوق الإنسان حول العالم” بل تجاوز ذلك ليقول بملء الفم: ”إن سجل أميركا الحالي مُعيب، وإنها فقدت السلطة المعنوية للتحدث عن حقوق الإنسان وعن صون الحريات الشخصية حتى في الداخل الأميركي”.
هذا ويشير ”كارتر” الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2002 إلى سياسة الاغتيال الرسمية التي تبعتها الإدارة الأميركية خارج أراضي الولايات المتحدة، والتي تبيح قتل مواطنين أمريكيين، كما يشير إلى قانون جديد تمَّ اعتماده مؤخراً، يمنح الرئيس الأميركي سلطة احتجاز أشخاص، حتى لو كانوا أميركيين، إلى أجل غير مسمى بدعوى الشك في ارتباطهم بمنظمات إرهابية، ودون رقابة من الكونغرس أو من المحاكم الفيدرالية. إضافة إلى ذلك، فإن قوانين أخرى صدرت بعد أن تمّ تمريرها على أثر هجمات أيلول 2001 تخرق الحريات الشخصية للمواطنين وتتيح مراقبة الاتصالات والمراسلات الالكترونية دون إذن قضائي، من قبل الوكالات الاستخبارية بدعوى حماية الأمن القومي.
فمن يدعي السعي لاحترام حقوق الانسان لا يقم بقصف المدنيين والأطفال والنساء بالطائرات والبوارج لمجرد الشك بوجود إرهابيين وفق التصنيف الأميركي. ومن يزعم احترام حقوق الانسان لا يقم بإنشاء سجون ثابتة وطائرة ـ جوية وبحرية وبرية في كل مناطق العالم ويمارس شتى أنواع التعذيب ومخالفة أبسط القوانين الانسانية. لقد كانت أمريكا من الدول الراعية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 لكنها في هذه الأيام تقوم بخرق معظم بنود هذا الإعلان بل أنها مزقته، حيث أعمتها قوتها العسكرية وأعماها غرورها الذي يضعها كما تتصور فوق المحاسبة أو المسائلة.
يقول ”كارتر: ”إن سجل الولايات المتحدة المخزي يؤكد أنها تمضي بعكس اتجاه التاريخ بعد أن ثارت شعوب العالم مطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية وبدلاً من أن ُتقدّم أميركا نفسها كمثلٍ أعلى لباقي دول العالم، فإنها تخلق المزيد من الأعداء وتحرج أصدقاءها بضربها عرض الحائط بروح ومضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
العالم بدأ يدرك اليوم أن الادعاءات الأميركية بالدفاع عن حقوق الإنسان ما هي إلا أكذوبة كبرى، وستار تخفي وراءه واشنطن نزعتها في الهيمنة والتوسع، لفرض سياستها وتحقيق مصالحها الخاصة، دون الاكتراث لما تخلفه تلك السياسة من خراب ودمار وفوضى عارمة تستهدف الشعوب في أمنهم واستقرارهم.
فأين حقوق الإنسان في فلسطين والعراق وأفغانستان… بل أين هي حينما تحاصر الشعب السوري ولو استطاعوا أن يمنعوا عنه الماء والهواء لفعلوا…؟!
والمفارقة الكبرى، أن واشنطن تصدر كل عام تقريرها عن حقوق الإنسان في العالم، ولكن وفق طريقتها الخاصة، وكل دولة لا تسير في فلكها تضعها في خانة ”منتهكي الحقوق”، وبنفس الوقت تبتدع أحدث الأساليب والمعدات المخصصة لأغراض التعذيب، وتصدرها لمن ينضوون تحت رايتها وتمنحهم شهادات وأوسمة لحسن سلوكهم، والأغرب أنها تتحدى العالم وتستخدم الفيتو ضد أي قرار يدين حليفتها إسرائيل لمصادرتها الحقوق وارتكابها أبشع الجرائم.
فهي تنشر قواعدها وحاملات طائراتها وجنودها وجواسيسها في أنحاء المعمورة، وتقريرها السنوي حول حقوق الإنسان في العالم، يوجه أصابع الاتهام إلى دول أخرى، مستخدماً أساليب بشعة لا تمت للحقيقة بصلة، مستهتراً بموضوع حقوق الإنسان لمصلحة أميركا، من خلال إصدار تقييمات منحازة ومعايير مزدوجة، بينما تتستر واشنطن على انتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة نفسها، وفي دول أخرى حليفة لها، مثل الكيان الإسرائيلي الذي يخرق يومياً وبشكل إجرامي ممنهج حقوق الإنسان الفلسطيني والعربي في الأراضي المحتلة.
إن الاهتمام المزيف بحقوق الإنسان من قبل أميركا وحلفائها هدفه الهيمنة والاستحواذ على ثروات الشعوب. أما الدفاع الحقيقي عن حقوق الإنسان فهو مهمة سامية على المجتمعات الإنسانية نشرها وتحقيقها من خلال احترام القانون الدولي ومبادئه ومن خلال التعاون المثمر بين كافة الشعوب. ومن الواضح ان ادارة ”ترامب” تلعب بالنار المستعرة في المنطقة وهذه النار لا تعرف التمييز في حال اشتدادها وتمددها بين المصالح الأميركية وغيرها وربما سيكون البادىء بإشعالها أول من يأتيه الحريق.