تشهد أروقة الساحة السياسية الأمريكية في الآونة الحالية مداولات ونقاشات عميقة حول إعادة انتشار القوات العسكرية الأمريكية في الخارج، نشأت هذه المداولات نتيجة لرغبة واشنطن في تقليص المهام العسكرية لما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر والموجهة بالأساس إلى محاربة الجماعات الإرهابية في الخارج، وإعادة تركيز أولويات وزارة الدفاع – بدلاً من ذلك – إلى مواجهة ما يسمى القوى العظمى مثل روسيا والصين.
وقد أثارت مقترحات وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر بشأن إجراء تخفيض كبير – أو حتى الانسحاب الكامل – للقوات الأمريكية من منطقة غرب أفريقيا على اعتبارها المرحلة الأولى من مراجعة انتشار القوات الأمريكية على المسرح العالمي، التي تتعلق بمحاولة إعادة نشر الآلاف من القوات في مختلف بلدان العالم، الكثير من التساؤلات والانتقادات وعلامات الاستفهام.
تركزت تلك التساؤلات حول ما إذا كان الانسحاب العسكري الأمريكي سوف يؤدي لإحداث فراغ على الأرض تتحرك القوى العظمى المناوئة إلى تغطيته، الأمر الذي يقوض أركان الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وما إذا كان الانسحاب سوف يؤدي إلى المخاطرة بانهيار الاستقرار النوعي في تلك المنطقة.
تعكس مبادرة وزير الدفاع الأمريكي ما صار يُعرف بالأولوية الحاسمة لديه: الانتقال بعيداً عن ثمانية عشر عاماً من عمليات نشر القوات العسكرية لمكافحة الإرهاب في المناطق التي تعاني من التطرف والتمرد، حيث يجري نشر الآلاف من القوات الأمريكية في محاولات مستمرة للمحافظة على الحد الأدنى الممكن من الاستقرار، وإنما من دون احتمالات واضحة لوضع الحلول النهائية لتلك الصراعات المستمرة.
تشير تقارير أمريكية أنه قد جرى التخطيط المسبق للانسحاب من غرب أفريقيا بصورة وثيقة في وزارة الدفاع الأمريكية، رغم أن الأمر لم يصل إلى مستوى مشورة الكونجرس.
إذ كانت المهمة الرئيسية من نشر القوات الأمريكية هناك معنية بتدريب ومساعدة قوات الأمن المحلية في منطقة غرب أفريقيا في محاولة لمكافحة وقمع الجماعات المتطرفة ومنها “بوكو حرام” وفروع تنظيمي “القاعدة” و”داعش” العاملين هناك. وفي جزء من هذه المهمة، قُتل نحو أربعة من الجنود الأمريكيين في كمين تعرضوا له قبل عامين أثناء القيام بدورية راكبة في النيجر.
وسيشكل الانسحاب الأمريكي من غرب أفريقيا ضربة قاسية للقوات الفرنسية التي تقاتل الجماعات المتطرفة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث بلغت تكلفة دعم واشنطن لهذه العمليات، خصوصاً على صعيد الاستخبارات والعمل اللوجيستي، نحو 45 مليون دولار سنوياً.
ويواجه الفرنسيون ودول الساحل في الوقت الحالي تصاعداً للعنف المتطرف تجلى خصوصاً في مقتل 71 جندياً نيجيرياً في هجوم على معسكر “إيناتيس” في العاشر من ديسمبر الجاري وقبلها بأيام قُتل نحو 13 جندياً فرنسياً في اصطدام مروحيتين في مالي.