“مات الملك.. عاش الملك”.. هذه العبارة تلخص ما جرى ليلة 23 يوليو 1999 في المغرب.
ورغم كل القلق الذي انتشر في المملكة بعد الإعلان الرسمي عن وفاة الملك الحسن الثاني فقد ظهر ولي عهده الأمير محمد على شاشة القناة التلفزيونية اليتيمة في البلاد يتلقى البيعة من باقي أعضاء العائلة الملكية والوزراء وكبار ضباط القوات المسلحة.
الأمير الذي يستعد في تلك اللحظات ليخلع عباءة ولي العهد ويعوضها بلقب ملكي هو محمد السادس، يصاحبه طيلة فترة حكمه، يلبس نفس اللباس التقليدي الذي ارتداه أجداده الذين سبقوه طوال قرون، الجلباب الأبيض، وطربوش أحمر والسبحة سوداء الحبات.
كل الحركات والسكنات كانت مضبوطة ومعدة سلفاً في قاعة العرش، أكبر قاعات القصر الملكي في الرباط، وبدا الملك الجديد وكأنه قد عاش نفس الطقس من قبل أو تدرب عليه..
ملامحه التي يبدو عليها التعب والحزن، لم تمنعه من أن يمد يده لكبار مسؤولي الدولة الذين يبايعونه ليقبلوها بالكثير من الحزم وإلى جانبه وقف أخوه الأمير رشيد، الثاني في ترتيب استحقاق العرش، في احترام تام للبروتوكول الصارم الذي يتربى عليه أمراء الأسرة العلوية في مؤسسة عتيقة يطلق عليها “المدرسة المولوية”.
فمنذ ولادة كل أمير يتم اختيار مجموعة من المحظوظين من أبناء الشعب، الذين تزامن تاريخ ولادتهم مع تاريخ ميلاده ليلتحقوا بالقصر الملكي حيث سيتم إسناد تربيتهم إلى مدرسين ومدربين خاصين في المدرسة المولوية.. يتم إعدادهم ليصبحوا حكام الغد في كل التفاصيل انطلاقاً من كيفية الجلوس والأكل والكلام وحتى طرق إدارة الدولة.
الرجل هو الأسلوب
بخطى تابثة على السجاد الأحمر وفي تناغم تام مع تحركات الحرس والمرافقين والأهم خطوات والده الملك محمد السادس كان يسير الأمير الحسن بكل ثقة رغم أنها المرة الأولى التي يقوم فيها بزيارة رسمية من هذا النوع، فقد قرر والده أن يصحبه لقمة المناخ المنعقدة في العاصمة الفرنسية باريس يومي 12 و13 ديسمبر/كانون الأول والتي يحضرها أكثر من 50 رئيس دولة وحكومة.
كانت هذه الزيارة بمثابة اختبار لما تعلمه ولي العهد في المدرسة المولوية التي ولجها منذ سنة 2008 وهو في الخامسة من عمره، حيث انطلق أول فصل خاص به في ظل نظام تعليمي صارم أسس له الجد محمد الخامس وتخرج منه كل من الحسن الثاني ومحمد السادس والآن جاء الدور عليه.
فخلال سنة 1942 والمغرب مازال تحت الحماية الفرنسية قرر الملك الراحل محمد الخامس أن يطور النظام التعليمي الصارم الذي كان يخضع له الأمراء ويدخل عليه تعديلات جوهرية ليحوله من نظام عتيق يعتمد على العربية والقرآن والفقه إلى نظام عصري يدمج اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة حتى يتسنى للأمراء تكوين نظرة عن التغييرات التي تجري في العالم حولهم.
عمر الملك الراحل الحسن الثاني كان وقتها 13 سنة حينما تم تخصيص جناح في القصر الملكي بالرباط لإنشاء المدرسة المولوية بصيغتها الحالية تقريباً وبنفس الهدف الذي لم يتغير: إعداد الأمير ليتولى مهنة “ملك”.
ولتحقيق هذا الهدف استدعى محمد الخامس مجموعة من الأطر والأكاديميين المعروفين في القصر وطلب منهم إعداد مقررات تزاوج بين النظام الفرنسي وبين التعليم المغربي العتيق، حتى يكون ولي العهد على وعي بآخر التطورات العالمية وأيضاً منغرساً في ثقافة بلاده الأصلية.
وطبعاً لن يدرس الأمير وحده، فكان الحل الذي اهتدى إليه القائمون على المدرسة هو اختيار عشرة تلاميذ من أبناء الشعب بشرط تفوقهم الدراسي وسمعة عائلاتهم الطيبة ووفائهم للعرش العلوي، وذلك ما كان لتنطلق الدروس في شهر أكتوبر/تشرين الأول سنة 1942 والمكونة أساساً من القرآن والفلسفة والتربية الإسلامية والرياضيات إضافة إلى اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، كل هذا وفق نظام صارم من البروتوكول والتقاليد التي تراكمت داخل القصور الملكية طوال قرون.
نجحت التجربة ومرت السنوات ليتخرج الحسن الثاني من المدرسة المولوية ليتوج ملكاً سنة 1961، وحينما بلغ ولي عهده الأمير محمد سنته الرابعة فتح له أبواب المدرسة التي تعلم منها أصول الحكم لكن مع إضافات خاصة وفق شخصية الحسن الثاني المتأثر بمقولة الفيلسوف الفرنسي جورج لويس لو كليرك “الرجل هو الأسلوب”.
ظلت المدرسة المولوية مقفلة منذ تخرج الحسن الثاني إلى غاية سنة 1973، كان الأمير “سيدي محمد” كما يلقب، قد أنهى تعليمه الأولي المرتكز أساساً على حفظ السور القصار من القرآن ودروس أولية في النحو والتفسير ليصبح مستعداً لمرحلة الجد في مشوار إعداده ليصبح ملك الغد.
اختار له والده 12 تلميذاً من مختلف جهات المملكة، وتم تطعيم طبقة أبناء الأعيان بآخرين قادمين من شرائح اجتماعية متوسطة مع مراعاة التنوع الجغرافي للمغرب، كما شهدت الدروس والمقررات بدورها تغييراً كبيراً من ناحيتي الكم والكيف “الملك الراحل حول المدرسة المولوية إلى داخلية حقيقية يقيم فيها ولي العهد وزملاؤه بشكل دائم طيلة أيام الأسبوع باستثناء نهار الأحد.. ينامون ويشربون ويأكلون هناك.. يدرسون ويتطورون تحت عين الملك الذي كان يحب أن يخضع كل شيء لمراقبته الدائمة”، كما يحكي أحد رفاق دراسة الملك محمد السادس.
ينطلق اليوم الدراسي للأمير محمد وزملائه الذين ينادونه بلقب “سميت سيتي” الذي يطلق على ولي العهد، باكراً في السادسة صباحاً بالتحديد، يكون موعدهم مع حصة تحفيظ واستظهار سور القرآن في قاعة مخصصة لهذا الغرض شبيهة بالكتاتيب القرآنية المنتشرة في المساجد المغربية العتيقة، وبعدها تأتي وجبة الإفطار ثم تنطلق باقي الدروس بمعدل 45 ساعة أسبوعياً من الإثنين وحتى يوم السبت الذي يمثل الفسحة الوحيدة المنتظرة لهم حيث يتم عرض فيلم منتقى بعناية أمامهم في صالة العروض بالمدرسة.. فيلم وثائقي أو من سينما المؤلف بما لا يخرج عن الصرامة المتبعة في المدرسة.
وطوال ساعات الدروس يشرف على المدرسة موظفون وحراس يراقبون الأمير وزملاءه عن كثب لكن بكل احترام، فتسمع فقط عبارات “نعام سيدي” و “الله يبارك فعمر سيدي” إضافة إلى مربية خاصة تلازم ولي العهد كظله خاصة في السنوات الأولى ومهمتها تعليمه آداب التصرف والكلام وحتى فنون الجلوس إلى المائدة أثناء الأكل وتكون فرصة حتى لزملائه ليستفيدوا مما يمكن أن يصلهم من تلك الآداب.
وحتى وجبات الأكل فإنها تخضع لتقشف كبير “الناس يظنون أن الأمير وزملاءه يتمتعون بأحلى الأطباق والحلويات، والحال كان عكس ذلك تماماً، تلاميذ المدرسة المولوية يخضع نظامهم الغذائي لمبدأ: البطنة تذهب الفطنة، لذلك اقتصر مطبخ المدرسة على إعداد الوجبات الخفيفة فقط”، يؤكد لعربي بوست موظف في الديوان الملكي.
وإذا كان المدرسون المدنيون يتكلفون بالشق المعرفي في إعداد الأمير، فإن فريقاً خاصاً من الدرك الملكي والجيش يتكلف بوضع برنامج رياضي يتناسب مع سن الأمير وزملائه وتطور أجسادهم، وتتنوع الرياضات ما بين الفروسية أساساً والسباحة والجري ودائماً في إطار نظام عسكري صارم لا مجال فيه للعب الأطفال أو التسلية.
صرامة النظام داخل المدرسة تمنع الاختلاط بين الذكور والإناث بل وحتى بين الإخوة الأمراء، ففصل ولي العهد وحده، وفصل أخيه الأمير وحده، ولكل أميرة أخرى فصلها الخاص بها وزميلاتها المختارات بعناية.
بعد أربع سنوات في المدرسة المولوية ينهي ولي العهد وزملاؤه المرحلة الإعدادية، لتضاف له إلى جانب الدراسة مهام تمثيلية أخرى إلى جانب والده الملك، يسافر معه ويحضر الملتقيات الدولية ويحدث أن يدشن مشاريع تنموية محلية أو يفتتح ملاعب أو مركبات أو أنشطة خاصة بالطفولة والشباب.
في هذه المرحلة تصبح المدرسة متنقلة بكاملها مع تحركات ولي العهد والملك، يصحبهم المدرسون والموظفون والحرس وتخصص لهم قاعات للدراسة والمبيت في القصور الملكية الموزعة على التراب المغربي وإن كان التنقل في الخارج تخصص لهم غرف في الفنادق للمبيت وقاعات تنظيم المؤتمرات والاجتماعات للدروس التي لا يجب أن تنقطع بأي حال من الأحوال.
تظهر أيضاً، وكما يحكي لعربي بوست صحافي متخصص في شؤون العائلة الملكية، في هذه الفترة ميولات ولي العهد: هل هو أدبي التوجه أم علمي؟ الحسن الثاني كان ميالاً للتاريخ والقانون ومحمد السادس لم يخرج بدوره عن القاعدة وظهرت ميولاته الأدبية في فترة ما بعد الإعدادي ليتخصص بدوره فيما بعد في القانون والعلاقات الدولية.
وفي أوقات الاستراحات النادرة كان من حق تلاميذ المدرسة المولوية أن يمارسوا هواياتهم المفضلة في قاعة المطالعة من ضمن الأجنحة المخصصة لمبيت الطلاب، التي تحتوي مراجع باللغتين الفرنسية والعربية خاصة في الآداب العالمية والتراث الإسلامي، وفي تلك القاعة ظهرت موهبة محمد السادس الفنية في الرسم، لكن المدرسة المولوية لا مجال فيها للمواهب كما يصف زميل دراسة الملك “دوره هناك أن يصبح ملكاً وهذا أمر جدي لا مجال معه للفن والرسم”.
لكن رغم هذا لم ينس ولي العهد عشقه للرسم وحينما أصبح ملكاً أطلق برنامجاً لتشجيع الفنانين التشكيليين وارتفعت أسعار اللوحات التشكيلية للفنانين المغاربة في عهده لأنه تحول إلى أكبر مشجع وجامع للوحات في البلاد.
تحديث.. لكن في ظل التقاليد
حفل نهاية السنة المدرسية لسنة 2010 سيشهد تغييراً ملحوظاً على برامج ومقرارت المدرسة المولوية الصارمة، الملك محمد السادس الذي لم ينس حرمانه من هوايته المفضلة والتي هي الرسم، سيتيح لولي عهده الأمير حسن وزملائه تنويع أنشطتهم ليظهروا في الحفل الختامي وهم يقومون بغرس الأشجار والأزهار وأيضاً بالغناء والتمثيل في إطار فقرة فنية خاصة بهم.
ولأول مرة في حفل المدرسة المولوية النهائي ستظهر زوجة الملك وأم ولي العهد جنباً إلى جنب مع عاهل البلاد كأسرة واحدة تحتفل بانتهاء الموسم الدراسي لابنها وزملائه بل وحتى استقباله وتقبيله وينقل التلفزيون الرسمي الحدث وهو ما شكل ثورة كسرت جمود عهد الحسن الثاني الذي كان وحده يحرص على مستقبل خليفته في العرش.
التغييرات مست أيضاً جوهر المقررات والدروس التي يتلقاها ملك الغد، ففي المدرسة فإلى جانب قاعة تحفيظ القرآن التي مر منها محمد السادس وهو أمير شاب، تم إحداث قاعة خاصة بالمعلوميات، كل ما له علاقة بتكنولوجيا التواصل والإعلام الاجتماعي الذي يشكل محور اهتمام الجيل الذي سيحكمه الأمير الحسن، وتم تخفيض عدد الساعات المخصصة لحصص أخرى حسب مصدر مطلع في الديوان الملكي.
لكن التحديثات الشكلية والإعلامية التي واكبت دفعة ولي العهد الحالي لم تمس البنية العتيقة المبنية على التقاليد المخزنية المتواترة، فكان أول درس للأمير الحسن وهو يلج المدرسة المولوية سنة 2008 هو كتابة لقبه الذي ورثه عن أجداده على سبورة الفصل “سميت سيدي” ليحفظه زملاء دفعته كرسالة واضحة: هذا ملك المغرب القادم، وأنتم رجال دولته فكونوا في المستوى.
https://www.youtube.com/watch?v=xahuvPhhpUM